حدیث الناس

العطلة.. موت بطيء!

العطلة الرسمية التي تعلنها الحكومات في بلادنا تسفر عن موقفين من الناس؛ الاول: المعترض على تعطيل الدوائر الرسمية وتأخير إنجاز المعاملات والاجراءات، لاسيما ما يتعلق بالمحاكم والبنوك، والبلديات، أما الموقف الثاني يمثله شريحة الموظفين في الدوائر الحكومية والمدارس والمحاكم، فهؤلاء إن لم يظهروا ارتياحهم فانهم يلتزمون الصمت إزاء هذه الظاهرة غير الحضارية المبتلية بها دول عديدة لاسيما العراق.

إن اليوم الذي يجلس فيها الموظفون والطلاب في بيوتهم لن يحسسهم بما يوحي الى التخلف عندما تكون معظم متطلبات المعيشة متوفرة، في مقدمتها الراتب الشهري

الاثنان يتقاسمون النتيجة المرّة، وهي؛ ضياع الوقت ومزيد من المراوحة في المكان، وهي صورة طبق الأصل للتخلف في مجالات التعليم والتنمية وحل الازمات، فبدلاً من تلقي الطالب في المدارس العراقية مائة حصة دراسية –مثلاً- على احتساب عشرين يوم في الشهر لخمسة حصص مفترضة يومياً، فانه سيتلقى نصف هذا الرقم، بل واحياناً أقل بكثير بسبب غياب الكادر التعليمي او مشاكل اخرى. وكذا الحال بالنسبة للمشاكل المتعلقة بالقضاء والبلدية ومؤسسات الدولة التي يفترض انها تعضد المواطن في متطلباته واحتياجاته، وايضاً حل مشاكله التي معظمها من صنع الدولة نفسها، كأن تكون المعاملة متوقفة على توقيع، او ختم، أو كشف، وغيرها من الامور الروتينية المعروفة.

إن اليوم الذي يجلس فيها الموظفون والطلاب في بيوتهم لن يحسسهم بما يوحي الى التخلف عندما تكون معظم متطلبات المعيشة متوفرة، في مقدمتها الراتب الشهري، وبالنسبة للطلاب فهم بين ملاصقة الأسرة، ومصادقة مواقع التواصل الاجتماعي والألعاب –معظمهم وليس كلهم- ولكن الزمن هو الذي يصدمنا يوم الحاجة الى ما يلبي حاجاتنا اليومية، الصغيرة منها والكبيرة. والمثال الحيّ والقريب علينا في العراق الذي ضاع الزمن فيه بالعطل الرسمية منذ 2003، وبنظرة خاطفة على السلع المستوردة من الصين منذ هذا التاريخ وحتى اليوم، نلاحظ الارتفاع والتنوع بشكل مذهل للسلع والمنتجاب الصينية، فيما العراقيون يتلقفون هذه السلع بكل رحابة صدر ويدخلونها في بيوتهم مع الاستمتاع بالعطل الرسمية المستمرة!

من المسؤول؟

مما يؤسف له حقاً، أن نتراجع من كيفية الاستفادة من الوقت وتقليص عدد ايام العطل خلال السنة، نشهد تسابق المحافظين على إصدار قرار العطل الرسمية دون الرجوع الى “الحكومة الاتحادية” في بغداد، كما حصل في العطلة الاخيرة بمناسبة ذكرى استشهاد القائدين العزيزين؛ ابو مهدي المهندس، وقاسم سليماني، علماً أن العراق لم يشهد عطلة رسمية العام الماضي، وهذه الذكرى الثانية لهما، ولا مجال هنا للحديث عما هو أجدر وأكثر فائدة في مناسبات تكريم وتخليد من دعوة الناس للخلود الى النوم في بيوتهم الى ساعات الظهيرة، حتى وإن كانت المناسبة تتعلق بالمعصومين، عليهم السلام، وايضاً؛ ما يتعلق بالزيارات المليونية، فالتعطيل التام والمطلق لاسيما للمدارس والجامعات يعد جريمة بحق العلم والتعليم، كما ان الحديث يطول حول تأكيد الإسلام في القرآن الكريم وعلى لسان النبي الأكرم والأئمة الاطهار على طلب العلم والمعرفة مهما كانت الظروف.

إن الجلوس في البيوت، وحتى لجوء البعض الى المنتجعات والمتنزهات، له مردود عكسي على دعاة الاهتمام بهذه المناسبات

إنما؛ الحديث موجه الى المعنيين في الدولة؛ البرلمان والحكومة، و ليعلموا أن الفساد المالي، والفشل السياسي له تبعات مادية ربما يمكن تعويضها في قادم الايام، بينما قتل الوقت بهذه الطريقة البشعة لها تبعات غير مرئية ولا ملموسة في الحال الحاضر، وهي تبعات خطيرة بمديات بعيدة في الواقع الاجتماعي والثقافي والعلمي والاقتصادي.

إنه حقاً موت بطيء للعلم والابداع والانتاج و دفع الشعب العراقي لمزيد من الكسل؛ الذهني والبدني معاً، ليُضاف الى مشاعر اليأس والضِعة والاحباط والقلق وعدم الثقة المزروعة كلها وأكثر منها في النفوس، وهذا تحديداً ما يريده المتربصون بالعراق وأهله وخيراته، وحتى يكون العراق أرضاً مباحة عن طيب خاطر من أهله لامتصاص ثرواته وخيراته، ثم إعادته إليه على شكل سلع ومنتجات ووقود نشتريها بأغلى الأثمان، وربما يأتي اليوم الذي لا نجد المال الذي نشتري به ما يبيعونه علينا!

على الاقل، ليكن التقليل من أيام العطل الرسمية حافزاً لمعالجة تلك المشاكل النفسية المعوّقة لكل اشكال التنمية والتعليم، والنظرة الايجابية للحياة، من خلال مواصلة الدراسة والبحث العلمي، وايضاً؛ الاستمرار في مشاريع الإعمار والبناء، وتمشية أمور الناس ليتنفسوا الصعداء، ولو لفترة معينة في وقت تتكالب عليهم الازمات والاحباطات من كل شيء، من الماء والكهرباء، مروراً بالأمن، والصحة، والعمل و… القائمة تطول.

نعم؛ نحن نستذكر الشهداء، ونخلّد المناسبات العظيمة والعزيزة علينا، ولكن كيف؟!

إن الجلوس في البيوت، وحتى لجوء البعض الى المنتجعات والمتنزهات، له مردود عكسي على دعاة الاهتمام بهذه المناسبات، بينما الاستذكار والتثقيف خلال وجود الطلبة في المدارس والجامعات، وحتى الموظفين والعمال في أماكن عملهم هو الذي يبعث الحياة لاصحاب الذكرى، ويكرّس المفاهيم والقيم والعِبر من حياتهم التي قضوها بالجدّ والعمل والجهاد والتضحية، وإلا لو كانوا مثل الآخرين في بيوتهم وبين عوائلهم ناعمين هانئين، لما تحولوا الى رموز نحتفي بهم ونعطّل الاعمال من أجلهم! أليس كذلك؟

عن المؤلف

محمد علي جواد تقي

اترك تعليقا