مقدمة وراثية
قانون الوراثة هو من القوانين العلمية التي توصَّل إليها العلم في هذا العصر، وأثبت بأن لها التأثير الأول بنقل الجينات بين الأجيال، ومنه عرفنا الحكمة في الروايات النبوية والولائية عن أهل بيت العصمة والطهارة، صلوات الله عليهم، حيث قال، صلى الله عليه وآله: “تزوجوا في الحِجر الصالح فإن العرق دساس“، و”تخيَّروا لنطفكم فأنكحوا الأكفاء، وأنكحوا إليهم)، و(تخيَّروا لنطفكم فإن النساء يلدن أشباه إخوانهن وأخواتهن“، وغيرها من الروايات التي تشجِّع الشباب على حُسن الاختيار في الزوجة والقرينة، وذلك (لأن العرق دساس) كما هو مشهور.
ولكن في هذا العصر جاؤونا ببدعة جديدة في هذا الباب وذلك من أجل عدم الزواج من الأقارب بحجة أن الزواج من القريبات ينتج العقم، أو الأمراض الوراثية المستعصية، ونحن لا ننكر قوانين العلم وتأثير الوراثة ولكن هذا إذا كان هناك أمراض ظاهرة ومتوارثة في العائلة فنعم يستحب الزواج من الأباعد لتلافي تلاقي الجينومات الوراثية في جيل من الأجيال الآتية بين الزوجين، ولكن هذا غير محصور بين الأقارب، فقد يحصل بين الأباعد أيضاً لتصادف وجود نفس الأمراض ولكن تكون كامنة لا ظاهرة فتظهر من جديد وهذا واقع نعرفه جميعاً..
وكما أن المرض يُتوارث كذلك النَّجابة تتوارث فلماذا لا يتكلمون عنها، ومن هنا ربما نفهم الرواية التي ينقلها الأعلام عن الرسول الأكرم، صلى الله عليه وآله، حين نظر إلى أولاد عليٍّ وجعفر،عليهما السلام فقال: “بناتنا لبنينا وبنونا لبناتنا“، لأن المشهور في التاريخ العربي والإسلامي أن مفخرة العرب، وفحل الرجال أمير المؤمنين الإمام علي، عليه السلام، كان من هاشميين، والإمام الباقر، عليه السلام، كان من الحسنين، بل وأبناء أمير المؤمنين، عليه السلام، دوحة الطهر والنجابة هم في الواقع من أخوين لأب وأم (عبد مناف، وعبد الله)، فلماذا ننظر إلى السلبي ولا ننظر إلى الإيجابي في هذه المسألة؟
السيدة زينب، عليه السلام، بضعة الزهراء (ع)
وإذا أردنا أن نتحدَّث عن المرأة العظيمة في هذه الدنيا، فإننا لا نعدو الحديث عن سيدة النساء فاطمة الزهراء، عليه السلام، بضعة الرسول الأعظم، وابنتها السيدة زينب الكبرى، عليه السلام، عقيلة الهاشميين الأكارم، لأن التاريخ البشري منذ أمنا حواء، عليه السلام، لا يتحدَّث عن امرأة بهذه العظمة والعفة والكرامة، إلا بنساء معدودات لا يتجاوزن أصابع اليد الواحدة..
فسيدة النساء فاطمة الطهر، عليه السلام، هي وتر في النساء لا نظير ولا شبيه ولا مثيل لها فيهن أبداً، لأن الله سبحانه ميَّزها في كل شيء، فهي المعصومة الوحيدة في النساء، وكذلك بضعتها المباركة السيدة زينب الكبرى، عليه السلام، التي كانت بضعة من أمها كما كانت أمها بضعة من أبيها رسول الله، صلى الله عليه وآله، فيصدق لو قلنا بأنها بضعة من النبي الأعظم، أيضاً، وهذا ما نلحظه في مدى الاحترام والتقدير والتبجيل والتكريم لها حتى من أبيها أمير المؤمنين، عليه السلام، فعندما كانت تريد أن تخرج لتزور قبر جدها أو أمها فكانت تخرج بموكب مهيب عجيب وغريب فيه نجوم الأرض، وليوث العرين، فعن يمينها الإمام الحسن، وعن شمالها الإمام الحسين، وخلفها أمير المؤمنين، وأمامها أبو الفضل العباس بالسِّراج، وعندما تصل يُطفئ أمير المؤمنين، عليه السلام، السراج فسألوه عن ذلك، فقال: “حتى لا يرى شخص وخيال زينب أحد“.
أي عظمة وأي كرامة أحاطت بالسيدة زينب؟، وحقيقة كلما قرأتُ عن أحوالها ومدى إكبار أهلها لها أتعجب من ذلك، وليس هم فقط وحتى عبد الله بن عباس عندما قالوا عنها: عقيلة الطالبيين، فاستنكر واعترض، وقال: “بل هي عقيلتنا بني هاشم جميعاً“، فهي في قانون الوراثة كانت في القمة السامقة، والذروة الشاهقة، في دنيا الإنسانية، ولم يؤثر عليها أنها من أبوين أبناء عم، كما أنها هي تزوجت من ابن عمِّها عبد الله بن جعفر وأنجبت اثنين من أبطال كربلاء.
السيدة زينب، عليه السلام، صوت كربلاء
الدارس للتاريخ الزينبي يشعر وكأن الله ـ سبحانه ـ خلقها وادَّخرها لدور محدد، وكلفها برسالة عظيمة تحملها بعد مأساة كربلاء الخالدة، حيث كانت شريكة أخوها الإمام الحسين، عليه السلام، في نهضته المباركة، فكان دوره المأساوي قبل يوم عاشوراء، وكان دورها التبليغي فيما بعدها، فقامت بالدور على أكمل وجه، وأدت الرسالة كأفضل، وأبكى، ما يمكن، ولكن كان دورها معقَّد وعجيب لأنه بحاجة إلى صبر تعجز عنه الجبال الرواسي ولا عجب أن سُمِّيت بـ(جبل الصبر)، و(أم المصائب)، فلو تجسَّد الصبر شخصاً لكان زينب الكبرى، عليه السلام، حقاً.
كانت السيدة زينب، عليه السلام، جامعة الأطفال، والنساء، وحامية الإمامة، وحاملة الوصاية، والصوت الهادر الذي انطلق من حين بحثت عن جسد أخيها الإمام الحسين، عليه السلام، المقطَّع والمحطَّم بسنابك الخيول الأعوجية الأموية، دون رأس، ولا لباس، إلا اللباس الذي زهد فيه القوم، فلما وصلت إليه بعد جهد جهيد، وتعثُّر بجثث الشهداء، وسقوط وقيام، حتى عثرت عليه من رائحته – كما يقول سماحة السيد المرجع المدرسي (حفظه الله) – فرفعت طرفها إلى السماء وقالت: “اللهم تقبَّل منا هذا القربان“.
من تلك اللحظة بدأ صوت مأساة كربلاء يتردد في الصحراء، وراح يتمدَّد حتى عمَّ كل الأرجاء، فلم تبقَ كربلاء مدفونة في تلك الصحراء القاحلة، بل صارت صرخة إيمانية متنقلة في كل مكان حطَّت فيه السيدة زينب، عليه السلام، رحالها، فكان صوتها يصدح بالحق، وعينها تدمع بالمظلومية، وجسدها ينهض بالمسؤولية، فأسمعت الدنيا مأساة كربلاء، وصرخة أخوها الحسين، عليه السلام.
أول الصرخات في الكوفة
وكانت أولى المحطات الزينبية في طريق السبي والأسر والمصيبة التي ما بعدها مصيبة هي الكوفة البائسة التي صحت على وقع جريمة نكراء سجَّلها التاريخ باسمها، لصالح أعدى أعداءها صبيان النار من بني أمية الشجرة الملعونة في القرآن ويزيدهم السكير الخمير القاتل الشرير، وكان هناك ابن مرجانة يرقص طرباً، ويميل تيهاً وفخراً، ويتبجَّح مزهوَّاً بالنصر، وشامتاً بالسيدة زينب، عليه السلام، ومَنْ معها وعندما عرفها قال لها: “الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم وأكذب أحدوثتكم”.
فقالت زينب: “الحمد لله الذي أكرمنا بنبيه محمد، صلى الله عليه وآله، وطهَّرنا من الرِّجس تطهيراً، وإنما يفتضح الفاسق، ويكذب الفاجر، وهو غيرنا والحمد لله“.
فقال ابن زياد: كيف رأيتِ فعل الله بأهل بيتك؟
قالت: “ما رأيت إلا جميلاً، هؤلاء القوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم يا بن زياد، فتحاجون وتخاصمون، فانظر لمن الفلح يومئذ! ثكلتك أمك يا بن مرجانة“. (الفتوح، أحمد بن أعثم: ج ٥ ص ١٢٢).
ثاني الصرخات في الشام
الشام وما أدراك ما الشام على آل رسول الله، صلى الله عليه وآله، حيث قطع الركب الزينبي في رحلة السبي أكثر من أربعين منزلاً من منازل الطريق، حين تقصَّد الأعداء أن يطوفوا بهم في البلاد وكانت الأمة تستقبلهم كأنهم أسرى من الترك أو الديلم، ويشمتون بهم ويتفرجون عليهم ويعقدون مجالس الرقص واللهو كما حصل عندنا في حلب وجسر الشغور وغيرها، وفي كل مكان نزلوا فيه تركوا أثراً شاهداً وكأن الله سبحانه أراد لتلك المسيرة أن تبقى في الوجدان، وعليها شواهد العيان، إلى أن وصلوا إلى الشام حيث كانت مزيَّنة كلها بالرايات والأعلام والرقص على الدفوف، وأوقفوهم على باب الساعات للباب الشرقي للمسجد الأموي لثلاثة أيام حتى أذن الطاغية يزيد لهم بالدخول فدخلوا والملأ قد اكتمل والزينة وجاؤوا بالرأس الشريف بطشت الذهب ومغطى بالحرير فكشفه يزيد الشر وراح يلعب بأسنانه بالقضيب ويُنشد شعر الكفر والفجور.
فلما رأت السيدة زينب، عليه السلام، ذلك المنظر، صرخت بالطاغية صرختها المدوية في التاريخ تدك كل سلاطين البغي والجور والظلم والطغيان حيث قالت له: “أَمِنَ الْعَدْلِ يَا ابْنَ الطُّلَقَاءِ تَخْدِيرُكَ حَرَائِرَكَ وَسَوْقُكَ بَنَاتِ رَسُولِ اللَّهِ سَبَايَا؟).. إلى أن قالت: (ولئن جرَّت عليَّ الدواهي مخاطبتك، إنّي لاستصغر قدرك واستعظم تقريعك، واستكثر توبيخك، لكن العيون عبرى، والصدور حرى“.
“ألا فالعجب كل العجب، لقتل حزب الله النجباء، بحزب الشيطان الطلقاء”، و”فكد كيدك، واسع سعيك، وناصب جُهدَك، فوالله لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا، ولا يرحض عنك عارها، وهل رأيك إلا فند، وأيَّامك إلا عدد، وجمعك إلا بدد، يوم ينادي المنادي ألا لعنة الله على الظالمين“.
هذا الكلام ليس في البيت، أو الصحراء، أو في مكان لا يسمعها فيه أحد من البشر بل هي في مجلس الطاغية يزيد وفي قصره وبيته وملأه البائس، صرخت بوجهه القميء بهذه الكلمات النارية فحوَّلت مجلسه إلى عزاء حين دخلت عليه زوجته هند كما في بعض الروايات حاسرة ومستنكرة.
ثالث الصرخات كانت في الأربعين
حين أصرَّت السيدة زينب، عليه السلام، أن ترجع إلى كربلاء في طريق عودتها إلى مدينة جدها فأخذت الرأس الشريف وعادت إلى كربلاء فوصلت في يوم الأربعين الذي تحوَّل بصرخات زينب إلى يوم مهول يزلزل العروش، ويدك القصور على رؤوس الظالمين.
فما أحرانا أن ندرس تاريخ وسيرة هذه السيدة العظيمة بدقة وجلاء لنأخذ منها الدروس والعبر لنربِّي بناتنا ونسائنا على القيم الزينبية، لا سيما العلم، والحياء، والعفة، والشجاعة، والبطولة، والجهاد بقول الحق في وجه السلطان الجائر كما فعلت السيدة زينب، عليها السلام.
السلام على قلب زينب الصبور ولسانها الشكور.. وأسعد الله أيامكم بمولدها المبارك.