يقول الله ـ تعالى ـ: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ * قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ}.
إذا كانت هناك ارض خضراء على سفح جبل، هواؤها نقي، وماؤها سائغ للشاربين، لا ضوضاء فيها ولا ضجيج، فهل يفضّل السكن فيها؟ أم السكن في شقة وسط مدنية صاخبة؛ هواؤها ملوّث، الضوضاء يصم الآذان؟ لا شك أن الأرض الخضراء هي الخيار الافضل من تلك الشقة، بالرغم من أنها في مدينة!
كذلك المجتمع الاسلامي؛مجتمع هادئ مطمئن، متحابب، متوادد، الكل يحسن الى الآخر لا يخشَ الإنسان فيه الاستغلال والجريمة، لان الجو العام الذي يسود في هذا المجتمع جو مليئٌ بالمحبة والعطاء، والانفاق على بعضهم البعض.
فلنتصور الحياة في مثل هكذا مجتمع، وربنا قد بين صفات هذا المجتمع ما نسميه اليوم بالسلم الاهلي؛ فمن تلك الصفان أن الناس ينفقون في السراء والضراء، ويكظمون الغيض، ومحسنون الى بعضهم البعض.
سمة المجتمع الاسلامي أن يعيش الإنسان الراحة؛ الطمانية في النفس، وسكون الريح، والحب والاحترام، فيحب الآخرين ويحبون، ويكرمونه ويكرمهم
وفي مثل هذا المجتمع يتنافس الناس ليس التكالب على الدنيا، وإنما على الاحسان والعمل الصالح، لأن الله ـ تعالى ـ أمرهم حين قال ـ تعالى ـ: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}، فالناس يتنافسون على المكارمات والامجاد، ولعلنا نجد امثلة على لهذا المجتمع في بعض القرى والارياف، وبعض الناس المتاحبين في الله في أوساط المجتمعات الإسلامية.
في دعاء مكارم الاخلاق بيان كيف يتطلّع المؤمن للتعامل مع الآخرين، يقول الإمام زين العابدين، عليه السلام: “اللهم صل على محمد واله، وسددني من غشني بالنصح .. من قولي وفعلي”. والادعية الاخرى تنحو هذا النحو.
هذا الخُلُق الطيب الذي استمد جذوره من كلام ربنا وهو يخاطب نبيه الاكرم، صلى الله عليه وآله، {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}، هذا الخلق الذي توارثه المسلمون من النبي واهل بيته الطاهرين، وهناك روايات كثيرة كيف كان ائمة الهدى، صلوات الله عليهم، يواجهون الاخرين بالخلق الطيب، وعبر هذا الخلق والطيب الإلهي ينجذب الناس إليهم، وحتى ابعد وأبغضهم الناس كانوا يجذبون عبر تلك الأخلاق.
وهذه هي سمة المجتمع الاسلامي، وفي مثل هذا المجتمع يعيش الإنسان الراحة؛ الطمانية في النفس، وسكون الريح، والحب والاحترام، فيحب الآخرين ويحبون، ويكرمونه ويكرمهم.
في سياق الآيات السابق يلاحظ كيف أن الكفر يورث الخيبة والذل والمهانة، بينما يورث الايمان ما يعاكس ذلك كله.
الاستغفار طريق العودة
لا يخلو الإنسان في حياته من هناة؛ من بعض الذنوب، وبعض ترك الآداب، فالمؤمنون كانوا يعتبرون ترك بعض السنن وكأنها ذنب، فبعضهم اذا لم يقم لصلاة الليل ـ لسبب أو لآخر ـ، يُرى في ذلك اليوم حزينا، لأنه ترك سنة من السنن الحميدة، لكنهم لا يلبثون بعد هذه الهناة او بعد ترك المستحبات، أن يستغفروا ربهم، لأن بهذا الاستغفار يذكر الله، وبهذا الذكر يطمئن قلبه، وإذا ذكر الله ارتفع عن مستوى الغرور والكِبر، وتبرير الذنب، يقول الله ـ تعالى ـ: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ}، والفاحشة هي الذنب الكبير الذي هو فاحش ظاهر، {ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ}، فذكروا عظمته، وثوابه، وعقابه، وذكروا الله أيضا بكل اسمائه الحسنى فاستغفروا لذنوبهم.
{وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ}، فإذا اذنب الإنسان، فمن له غير الله يصفي ذنبه ويغفره؟ {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} وهذه قضية مهمة بالنسبة الى اخلاق الإنسان، وهو عدم الاصرار على الذنب، فالشيطان قد يزين للإنسان عمله ويعمل عملا غير جيد فيتوب منه ويستغفر منه فتنتهي القضية هنا.
لكن حينما يسوّل له الشيطان أو نفسه يقوم ـ الإنسان ـ بالدفاع عن خطئه، فالخطأ الواحد يتحول الى عادة في حياته، فقد ـ مثلا ـ يتناول أحدهم السجائر ـ وهو لم يكن معتادا عليها ـ في جمع من الناس، فإذا قاموا بمنعه فإنه قد يستجيب ينتهي الأمر بإطفائها، لكن حين يزيّن له الشيطان فإنه يصر لإثبات شخصيته بعدها يتحول التدخين الى عادة سيئة.
وكثير من الصفات السيئة يكسبها البعض بسبب العناد، وعلى سبيل المثال؛ قد يطلب الأب من ابنه شيئا، ففي بدء هذه الصفة لا يستجيب الابن لابيه، بعدها تنشأ عنده صفة العناد، أما المؤمن فهو عكس ذلك فهو لا يصر على الذنب بل يستغفر الله.
سمات المجتمع الاسلامي
المجتمع الاسلامي مجتمع فقيه، يتمتع بمعرفة الأحكام الشرعية والآداب والاخلاق الحسنة، فهو لا يحتاج الى من يأمره وينهاه كثيراً، بل هو بذاته ينهى نفسه لأنه يمتلك الفقه، فإذا ارتكب خطاء فإن فقه يؤنبه ومن ثم يستغفر ربه.
في فترة من الفترات ابتعد المجتمع الاسلامي عن الفقه وظنوا أن معرفة الاحكام الشرعية خاصة بطائفة معنية يسمّون “بالحوزويين” أو العلماء وما اشبه، لكن الحقيقية يجب أن يكون كل واحد فقيها، يقول الرسول الأعظم، صلى الله عليه وآله: “طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة”، حتى أن بعضهم حذف كلمة “مسلمة” خلافا لما روي عن النبي، صلى الله عليه وآله، ومثال على ذلك تقول حركة طالبان: أن التعلم والتفقه حرام على المرأة.
لكن الحقيقة ان التفقه في الدين يكون للمرأة والرجل، لأنه ـ التفقه ـ هو الوسيلة لتجنب الحرام، ومقدمة للعمل بالواجبات.
بعدها يبين الله ـ تعالى ـ مدى حضوة هؤلاء ورضوانه عليهم، {أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ}، الإنسان إذا تذكر ذنبه فإن ضميره يؤنبه، لكن الله ـ تعالى ـ برحمته الواسعة يوم القيامة يُنسي المؤمنين ذنوبهم.
{وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ}، جاء في معنى الرواية عن النبي، صلى الله عليه وآله: “أن قاع الجنة صفصفا يكون بناؤه من أعمال المؤمنين في الدنيا”، فمن تكون عنده فإنه يبني لنفسه قصورا أكثر، ويزرعا اشجارا مضاعفة، فكلما قال لا إله إلا الله زُرعت له شجرة، وكلما صلّى زوجه الله من الحور العين، وحين يقوم بترك المحرمات هو بذاته وسيلة لتنمية حظه في الجنّة.
قال، صلى الله عليه وآله: “لما أسري بي إلى السماء، دخلت الجنة فرأيت فيها قيعان، ورأيت فيها ملائكة يبنون لبنة من ذهب، ولبنة من فضة، وربما أمسكوا، فقلت لهم: ما بالكم قد أمسكتم؟ فقالوا: حتى تجيئنا النفقة، فقلت: وما نفقتكم؟ قالوا: قول المؤمن: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، فإذا قال: بنينا، وإذا سكت أمسكنا”.
استذاكر آثار الماضين لتجنب الأخطاء
{قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}، يطيّب ربنا عبر هذا السياق فيما يتصل ببعض المشاكل، والعقبات، التي يقدمها المؤمن في سبيل الله، فهو ـ تعالى ـ يبين السنن، وهي الأنظمة الإلهية الحاكمة للخليقة، والله هو الذي يدبر الأمور، ولا يعني ذلك أنه يدبرها بلا نظام.
هذا النظام؛ نعرفه اليوم في أصغر الأشياء كالحشرات، أو الذرة، او ما يرتبط بصناعات علم النانو، فأكبر الموجودات واصغرها يخضع للنظام، وهذا النظام ذاته يوجد في الإنسان أيضا، فأجسامنا تخضع لملايين الانظمة، وكذلك المجتمع يخضع لهذا النظام، فهناك علوم السياسة والاجتماع، والاقتصاد، وموضوعات هذه العلوم المجتمع البشري، وهذا المجتمع ذا انظمة حاكمة، ويمكن تسمية هذه الانظمة بالسنن الالهية.
في فترة من الفترات ابتعد المجتمع الاسلامي عن الفقه وظنوا أن معرفة الاحكام الشرعية خاصة بطائفة معنية يسمّون “بالحوزويين”
والطريق الى معرفة الأنظمة التي حكمت المجتمعات يكمن في البحث عن آثارهم، فقلاع بعلبك، وأهرام مصر ـ على سبيل المثل ـ شاهدة على أنظمة حكمت في فترة من الزمن، وكذا غيرها من الآثار التي خلفتها الأنظمة، هي ـ الآثار ـ تشكف لنا حياة الامم السابقة، وتبين أسباب انهيارها.
عاقبة المكذبين كانت بسبب انحرافهم، بعد أن بنوا الارض وزرعوها، لكن الانبياء والرسول والمصلحون، حذروهم وانذروهم لمواجهة الانحراف الحاصل في المجتمع.
مثلا اليوم وكشاهد تاريخي على حادثة قوم لوط؛ بدأ الغربيون يتأثرون بدعاية الصهاينة حول المثلية، وهي اكتفاء الرجال بالرجال والنساء بالنساء، وهذه ليست سنة الحياة، فهل رأينا أي زوجين في الكائئات الموجودة يكتفي الذكور بالذكور، والإناث بالإناث؟
فقوم لوط بعد أن أعرضوا عن نصحية نبيهم، دمرهم الله، ولا تزال آثارهم موجودة تحت البحر الميت، مدن كبيرة دمّرت، واليوم وعلى غرار ذلك العمل القبيح هناك من يرفعون راية المثلية لنشر هذه العادة السيئة والفاحشة، فهل يعرف هؤلاء نهاية أعالمهم؟
{هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ}، على الناس ان يستوعبوا هذا البيان وهذه الفكرة، {وَهُدًى}، وحينما يكون بيان يكون هدى، وهو وسيلة لمواجهة الضلالة، {وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} وفيه موعظة للمتقين الذي يستفيدون منها، لان تقواهم تدفعهم للبحث عن الحقيقة.
- مقتبس من محاضرة للسيد المرجع المدرسي (دام ظله).