في عالم الثقافة هنالك افتراضات مشروعة وجميلة تدعو للتوسع في آفاق الوعي، ثم التفاعل والتجاوب مع مختلف القضايا والأمور، فمن يريد لكلمته السماع والتأثير لابد أن تتنوع ثقافته، فيكون عارفاً بالاجتماع والاقتصاد، والسياسة، والصحة، والقانون، فهو ليس طبيباً ولا محامياً، وإنما عارفاً بالمقدار الذي يضمن صحته وسلامته، ويتمكن من الدفاع عن نفسه وحقوقه، ومن ثمّ ينشر هذا الوعي الى الآخرين.
هذا من المفترض في عالم الثقافة، بيد أن الواقع على الأرض يقول أن هناك خباز، ونجار، وحداد، وخياط، كما هنالك؛ الطبيب، والمحامي، والمهندس، و كلّ واحد من هؤلاء يعمل ضمن اختصاصه، ولن يفكر يوماً التطفّل على عمل الآخرين تفادياً للفشل المحتوم، وهذا ما ينادي به العقل والذوق العام، ولكن!
عندما تقفز المناكفة (المكابرة) السياسية في الوسط الاجتماعي يصاب البعض بما يشبه اللوثة الفكرية ـ إن جاز التعبير- فيجد من حقه تفسير نصوص دينية وهو رجل محامي ـ مثلاً- أو هو طالب في الحوزة العلمية ويتحدث عن قضايا الأمن والدفاع والسياسة الخارجية، فالجميع يتصور أنه قادر على التحدث والتحليل وإصدار الاحكام عن كل شيء خدمة لهذا الطرف السياسي أو ذاك المهيمن على مصائر العباد والبلاد، مع بالغ الأسف، في حين “يُفترض” أن يكون هذا المحامي وذاك المهندس والعسكري والكاسب ورجل الحوزة العلمية الدور الرئيس في خدمة البلاد والعباد؛ كلٌ حسب موقعه وتخصصه.
الجميع يتصور أنه قادر على التحدث والتحليل وإصدار الاحكام عن كل شيء خدمة لهذا الطرف السياسي أو ذاك المهيمن على مصائر العباد والبلاد
“الضرورة”؛ تبريرٌ يسوقه هذا البعض للخوض في هذه الفوضى غير الخلاّقة، كما حصل مع استاذ الرياضيات في السادس العلمي، حدثني عنه أحد الاصدقاء في السنوات الاولى من العهد الديمقراطي الجديد، وقال: فيما كنا نتوجس خيفة امتحان البكلوريا والتحضير لهذه المادة الصعبة، كنّا نتلقى دروساً في مقاومة المحتل الاميركي! طبعاً؛ هي مشاعر مطلوبة ولابد منها من شعب يواجه غزو ثم احتلال عسكري بكل المعايير.
بيد أن المشكلة في تحول هذه المشاعر الى منظومة ثقافية تحل محل المنظومة الاخلاقية والقيمية، فربما يتم تجاهل قيمة العلم والمعرفة، وقيم الاخلاق والانسانية تحت شعار “مقاومة المحتل” الذي تحول الى راية يقاتل فيها عراقيون ضد عراقيين، فتسيل الدماء وتطيح الرؤوس، وتجري ويلات وكوارث رهيبة، وإلا فان شعوب سبقتنا في احترام هذه المشاعر الوطنية لفترة زمنية محددة، ثم توجه الجميع نحو طلب العلم، وكسب التجارب لإعادة البناء، وإرساء دعائم القانون والنظام في المجتمع، وللمزيد من الإطلاع، بالامكان مراجعة تجارب دول قريبة علينا (في العالم الثالث) مثل؛ الهند، وكوريا الجنوبية وفيتنام، والصين.
مواقع التواصل الاجتماعي باتت من المواد الأكثر قابلية على الاشتعال في العصر الحديث، فهي الساحة المفتوحة لخوض الطرق المتقاطعة بشكل مريع وجنوني، فنجد الجميع يتكلم عن الجميع، منها صفحة تهتم بالشأن الانساني والتنموي، وتتحدث عن تحديات المعوقين والفقراء وكيف يتربعون على قمم النجاح، ولكن فجأة صدمتني بتضامنها مع رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي منددة بمحاولة الاغتيال الفاشلة! أو صفحة لحسينية وهي تنشر لاسعار النفط المرتفعة في العراق مع وجود غلاء الطحين و…! هذا على سبيل المثال.
مواقع التواصل الاجتماعي باتت من المواد الأكثر قابلية على الاشتعال في العصر الحديث، فهي الساحة المفتوحة لخوض الطرق المتقاطعة بشكل مريع وجنوني، فنجد الجميع يتكلم عن الجميع
مما يعني وجود شيء في العراق اسمه: “الحتمية السياسية” على غرار “الحتمية التاريخية” التي تحدث عنها الماركسيون كثيراً، وأن كل شيء في الحياة يجري وفق “قوانين محددة سلفاً ضمن سلسلة غير منقطعة من الحوادث”، يزول فيها شيء اسمه “الإرادة الحرة للإنسان”، كما تزول ايضاً في غمار الحتمية السياسية التي تتطلب هذه المرة الايمان بتابعية الجميع للسياسة وفق ضوابط وقوانين غير قابلة للنقاش، وإن كانت مناقضة للفطرة والضمير، ولعل هذا ما يفسّر الاصطفاف السريع والمذهل للبعض ليكون في جانب أمام اصطفاف آخر في الجهة المقابلة.
يا ليت يكون لوسائل التواصل الاجتماعي الدور الإيجابي في تبادل الافكار والنصائح والتجارب لنهضة علمية وثقافية وأخلاقية في العراق، كما حرّكت الجماهير العربية من المحيط الى الخليج في ثورات وانتفاضات جماهيرية غير مسبوقة عام 2011، فأطاحت برؤوس لم يحلم أحد بسقوطها، بينما قضيتنا سهلة، فنحن لدينا كل شيء؛ الحرية، والديمقراطية، والمال الوفير، والمعادن، والزراعة، والعلم، والطاقات الشبابية، يبقى أن نغذي كل هذه القدرات الجبّارة في جانب معين، ولو بشكل بسيط وتدريجي ـ والعافية بالدرجات- بدل من أن يكون المرض سريعاً وخاطفاً؛ نفسياً، واجتماعياً، وثقافياً. فنحن ندعي معرفة كل شيء، ولكن لا تنتج لنا هذه المعرفة ابتسامة صغيرة نتبادلها بصدق، او حياة سعيدة ننعم بها بين افراد الأسرة الواحدة، او بين الاصدقاء والزملاء، بعيداً عن التشكيك، والتسقيط.