ثقافة رسالية

العقل هو الدين (16) التوفيق والسعي الطريق إلى حسن الإختيار*

قال أمير المؤمنين، عليه السلام: ” .. ولا قائد خير من التوفيق”.

 كثير من الناس يعيشون مخاضا عسيرا يجعل الغالبية منهم في كثير من الحالات؛ إما يعيشون في دوامة الإختيار، وإما في غفلة الإختيار، ففي الحالة الأولى يعيشون التخبط، فلا يدرون أي الأمور تُقدّم وأيها يؤخر، وفي الحالة الثانية يختارون أي شيء  للهروب من الفراغ وما اشبه.

ولكن حينما تكون الرؤية واضحة عند الإنسان وغير مشوّشة، فإنه يسهل عليه الإختيار، ووضوح الرؤية ما هو إلا نتاج صحة المفاهيم؛ مفهوم الإنسان للحياة، وللدينا، ومفهوم ما يرتبط بما حوله.

هذه المفاهيم ليست من نتاج أفكاره، وإنما هي وحي مُنزل؛ بمعنى أن الوحي الذي يستثير العقل يبين له الصراط المستقيم، ويبين له المفاهيم الصحيحة، ومن ثمّ يُنميه ويعطيه قدرة أكبر التمييز ليس بين الحق والباطل، وإنما بين النافع والأنفع، وبين الصالح والأصلح، وذلك ببركة نور العقل ونور الوحي.

حينما تكون الرؤية واضحة عند الإنسان وغير مشوّشة، فإنه يسهل عليه الإختيار، ووضوح الرؤية ما هو إلا نتاج صحة المفاهيم؛ مفهوم الإنسان للحياة، وللدينا، ومفهوم ما يرتبط بما حوله

لذلك لابد أن تكون لدينا علاقة بمصدرين؛ العقل، والوحي، وكلاهما يكمّل الآخر، فبالعقل نفهم الوحي، وبالوحي نكمّل العقل، وبالتالي من خلالهما معاً نستطيع أن نفهم المفاهيم، وأن نعرف ما يصلحنا، بل وما هو أصلح لنا.

هذه الرواية ـ كما سبق ـ بيّنت لنا بعض الأولويات في بعض المفردات وهذا هو الوحي، والعقل حينما يقرأ هذه الروايات ويطبقها سيكبُر، وحينما نفهمها بالعقل ستكون لنا سراجا ونبراسا تضيء لنا طريق الحياة، فتسهّل علينا اختيار الأولويات.

كيف يكون التوفيق قائداً؟

يقول الإمام علي، عليه السلام: “ولا قائد خير من التوفيق”، قد يتساءل البعض: كيف يكون التوفيق قائدا؟

صحيح؛ أن التوفيق بيد الله ـ سبحانه وتعالى ـ لكنه جعل للتوفيق اسبابا، وحين يلتزم الإنسان بذلك يوفقه الله، فكما أن الله ـ تعالى ـ يهدي ويضل بأسباب، يقول ـ تعالى ـ: {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ}، فكيف يهتدي الإنسان؟ {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}.

ونقرأ أيضا كل يوم: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} وذلك يكون بـ: {وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً}، فكل شيء بحاجة الى أرضيّة في بقية المفاهيم.

الإنسان بحاجة الى التوفيق وهو أفضل قائد يسوقه الى كل خير في أي مجال، “ولا قائد خير من التوفيق”، القيادة هي التي تحدد مصير الإنسان ومسيره، ولكن حين يعتمد الإنسان على ذاتياته فإن ذلك يؤدي به الى الضلال، “إعجاب المرء بنفسه مهلكة له”، وذلك مثل قارون حينما قال: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي}، فهو هنا ألغى التوفيق الإلهي.

قالَ الإمامُ الجوادُ، عليه السلام: “لابد للمؤمن من ثلاث: توفيق من ربه وواعظ من نفسه وقبول ممن ينصحه”، فالواعظ شيء داخلي، والنصح علاقات الإنسان مع الآخرين، وبالتالي قبوله النصيحة وهذا هو التوفيق.

وحتى يوفّق الإنسان لبناء علقه فإن عليه أن يهيىء الأرضيّة لذلك، “تواضع للحق تكن أعقل الناس”، فالاستكبار مانع من التوفيق الإلهي

“يا من دلَّ على ذاته بذاته”، فالله ـ تعالى ـ هو الذي يُعلمنا وهو الذي يوفقنا، لذلك يجب الإنسان أن يبعد الغرور عن نفسه، فالجهد الذاتي لا ينفع إلا بتوفيق الله، ولذا حين نكون في بحبوحة من العلم، أو استقرار نفسي، او تكون لدينا محبة في قلوب الناس، فإن ذلك كله من الله.

فلا يوجد شيء في هذا الكون منفصل عن الغيب، فالحالة المادية بمفردها لا تحرك ساكنا، فلولا التوفيق الإلهي لما تحرك الإنسان، ونحن نقرأ في أدعية شهر رجب: “يَا مَنْ يُعْطِي مَنْ سَأَلَهُ ، يَا مَنْ يُعْطِي مَنْ لَمْ يَسْأَلْهُ وَ مَنْ لَمْ يَعْرِفْهُ تُحَنُّناً مِنْهُ وَ رَحْمَةً”، لذلك نحتاج الى قيادة التوفيق، حتى لا يصبح لدينا غرور، لأن الله ـ تعالى ـ حينها يوكل قيادة الإنسان الى نفسه، وفي هذه الحالة لا يستطيع المرء أن يقوم بأي عمل، نقرأ في الدعاء: “لا تكلني الى نفسي طرفة عين”.

نعم؛ السعي مطلوب لأن الرزق لا يأتي الى الإنسان وهو نائم، لكن ذلك السعي بحاجة الى توفيق إلهي، فعلى سبيل المثال، نحن نريد العلم والمعرفة الإلهية، وذلك يعني أننا بحاجة الى توفيق من الله، “فليس العلم بكثرة التعلم وإنما هو نور يقذفه الله في قلب من يشاء”، فالمعرفة بالله ـ تعالى ـ لا تتأتى بالجهد التعليمي فقط، ولذلك جعل الله السبيل الى العلم، والطريق الى التوفيق، “وأشعر قلبك الرحمة تنل العلم”، “واشعر قلبك التقوى تنل العلم”، فحتى يحصل الإنسان على العلم وتتفتح أمامه ابواب المعرفة والحكمة، فإن عليه أن يتقِ الله.

وحتى يوفّق الإنسان لبناء علقه فإن عليه أن يهيىء الأرضيّة لذلك، “تواضع للحق تكن أعقل الناس”، فالاستكبار مانع من التوفيق الإلهي، فإذا كانت هناك، فكرة حق، أو حكم أو ما اشبه، فإن على الإنسان العاقل قبول ذلك ولو كان يناقض كل مسيرة حياته.

{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ}، في كل المجالات؛ فيزيد الإنسان عقلا، وإيمانا، ومحبة، فالله ـ سبحانه ـ حينما ينعم على عبده وهو بدوره يشكره، فإنه ـ تعالى ـ يزيد، فشكر نعمة العقل اتباعه وهكذا في بقية النعم.

إن الإنسان بحاجة الى قائد، وخير قائد للإنسان هو التوفيق ولابد من تهيئة الأرضية والأسباب للحصول على التوفيق الإلهي، ولن يكون ذلك بالأماني، وإنما بالسعي في الطريق الذي جعله الله، وعلى الفرد أن يبتعد عن الغرور لأنه يشكّل حَجر عثرة في مسيرة الإنسان التكاملية، وللحديث صلة ..


  • إعداد هيأة التحرير

عن المؤلف

آية الله الشهيد المجاهد الشيخ نمر باقر النمر

اترك تعليقا