مقدمة نورانية
كنتُ ومنذ أن وعيتُ على هذه الدنيا في الشمال السوري الجميل، أسمع المؤذنين يصدحون على المآذن بقولهم يومياً: “السلام عليك يا أول خلق الله وخاتم رسل الله“، فكنتُ أسأل نفسي مَنْ يقصدون؟ وكيف جمع أوليَّة الخلق، وخاتمية البعثة؟
وبعد أن كبرتُ وتعلمتُ من شيخي؛ الناجي، ووالدي الحاج أبو نجيب -رحمة الله عليهما-، أنه؛ “أول خلق الله في عالم النور، وآخر رسل الله في عالم الظهور”، ولم أستوعب تلك الحقيقة التي تعلمتها منهما، فرحتُ أبحث عن عالم النور حتى صرت أسبح في بحار النور النبوية، فوجدتُ ضالتي وأمنيتي في تلك الأحاديث التي تجل عن الوصف، وتدف إلى الإيمان حتى الإيقان.
ومن تلك الأحاديث النورانية، قول رسول الله، صلى الله عليه وآله: “أول ما خلق الله نوري، ابتدعه من نوره واشتقه من جلال عظمته، فأقبل يطوف بالقدرة حتى وصل إلى جلال العظمة في ثمانين ألف سنة، ثم سجد لله تعظيما ففتق منه نور علي، عليه السلام، فكان نوري محيطا بالعظمة ونور علي محيطاً بالقدرة، ثم خلق العرش واللوح والشمس وضوء النهار ونور الأبصار والعقل والمعرفة وأبصار العباد وأسماعهم وقلوبهم من نوري ونوري مشتق من نوره. فنحن الأولون ونحن الآخرون ونحن السابقون ونحن المسبحون ونحن الشافعون ونحن كلمة الله، ونحن خاصة الله، ونحن أحباء الله، ونحن وجه الله، ونحن جنب الله و نحن يمين الله ونحن أمناء الله، ونحن خزنة وحي الله وسدنة ومعنى التأويل، وفي أبياتنا هبط جبرئيل، ونحن محال قدس الله، ونحن مصابيح الحكمة ونحن مفاتيح الرحمة ونحن ينابيع النعمة ونحن شرف الأمة، ونحن سادة الأئمة ونحن نواميس العصر وأحبار الدهر، ونحن سادة العباد ونحن ساسة البلاد ونحن الكفاة والولاة والحماة والسقاة والرعاة وطريق النجاة، ونحن السبيل والسلسبيل، ونحن النهج القويم والطريق المستقيم. من آمن بنا آمن بالله، ومن رد علينا رد على الله، ومن شك فينا شك في الله، ومن عرفنا عرف الله، ومن تولى عنا تولى عن الله، ومن أطاعنا أطاع الله، ونحن الوسيلة إلى الله والوصلة إلى رضوان الله، ولنا العصمة والخلافة والهداية، وفينا النبوة والولاية والإمامة، ونحن معدن الحكمة وباب الرحمة وشجرة العصمة، ونحن كلمة التقوى والمثل الأعلى، والحجة العظمى، والعروة الوثقى، التي مَنْ تمسَّك بها نجا) (بحار الأنوار: ج 25 ص23)
ولد الهدى والنور
ففي هذا اليوم العظيم الذي جعله الله وعاءً لولادة النور المُتجلي للحق –تعالى- في هذا الخلق، ففيه ولد الهدى للعالمين، والسلام في هذه الدنيا التي خلقها الله بالسلامة والإيمان، ولكن حوّلها شياطين الجن والإنس إلى بحر من الظلم والجور والطغيان، بعضهم على بعض، فحوَّلوا الحياة البشرية الآمنة المطمئنة إلى حياة وحوش الغاب، فأكل القوي الضعيف، و أخاف و أرعب الكبير الصغير، وصار الأمر أكثر سوءاً عندما تحكم فيهم الطغاة فقتلوا الصلحاء وأتباع الأنبياء ليخفوا صوت الحق في المجتمع والضمير في البشر.
ولادة النبي الأعظم، صلى الله عليه وآله وسلم، تعني ظهور رسالة سماوية جديدة الى أرض بيت الله الحرام، بعد أن أبلاها العبيد، وحولوا فيها مكان العبادة والتوحيد إلى مرتع للأصنام والأوثان
فولادة النبي الأعظم، صلى الله عليه وآله وسلم، تعني ظهور رسالة سماوية جديدة الى أرض بيت الله الحرام، بعد أن أبلاها العبيد، وحولوا فيها مكان العبادة والتوحيد إلى مرتع للأصنام والأوثان، و راحوا يعبدوها من دون الله، فبعث الله فيهم رسولاً منهم يعرفونه تمام المعرفة أصلاً وفصلاً ونسباً طيباً، تناسل من شجرة الأنبياء وبطل التوحيد أبينا إبراهيم الخليل، عليه السلام، وجده عبد المطلب شيبة الحمد كانوا يُسمونه بإبراهيم الثاني.
فالحقيقة التاريخية تقول: إن العرب كانوا في حالة يرثى لها من التشتت والتفرق والتشرذم والتقاتل والتناحر والتباغض فيما بينهم، فحياتهم كانت مصبوغة بالخوف فلا يقر لهم قرار فراحوا يذبحون أولادهم خوفاً من الجوع، ويئدون بناتهم خوفاً من الغزو، فكانوا من أذل الأقوام كما وصفهم أمير المؤمنين الإمام علي، عليه السلام، وهو أعلم الخلق فيهم، حيث يقول: (إِنَّ اللهَ سُبحانَه بَعَثَ مُحَمَّداً نَذِيراً لِلْعَالَمِينَ، وَأَمِيناً عَلَى التَّنْزِيلِ، وَأَنْتُمْ مَعْشَرَ العَرَبِ عَلَى شَرِّ دِين، وَفِي شَرِّ دَار، مُنِيخُونَ بَيْنَ حِجارَة خُشْن، وَحَيَّات صُمٍّ، تشْرَبُونَ الكَدِرَ، وَتَأْكُلُونَ الجَشِبَ، وَتَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ، وَتَقْطَعُونَ أَرْحَامَكُمْ، الأَصْنَامُ فِيكُمْ مَنْصُوبَةٌ، وَالآْثَامُ بِكُمْ مَعْصُوبَةٌ“. (نهج البلاغة: خطبه،25)
وكذلك وصفتهم سيدة نساء العالمين في قولها: “وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النّارِ، مُذْقَةَ الشّارِبِ، وَنُهْزَةَ الطّامِعِ، وَقُبْسَةَ الْعَجْلانِ، وَمَوْطِئَ الأقْدامِ، تَشْرَبُونَ الطّرْقَ، وَتَقْتاتُونَ الْوَرَقَ، أذِلَّةً خاسِئِينَ، {تَخافُونَ أنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِكُمْ}، فَأنْقَذَكُمُ اللهُ تَبارَكَ وَتَعالى بِمُحَمَّدٍ”.
فكانت العرب في جاهلية جهلاء، لا يعرفون إلا الغزو لبعضهم، وأن يكونوا أذيالاً لأعدائهم، كحالهم اليوم تماماً، فمن أجل ناقة البسوس تفانت ربيعة ومضر، وهم أبناء عم، ومن أجل داحس والغبراء (حصانين)! تقاتلت قبيلة عبس وذبيان نصف قرن من الزمن، ولأجل اليهود تقاتلت الأوس والخزرج لقرنين، وخاضوا مئات المعارك، فكم يشبه حالهم اليوم بالأمس البعيد زمنياً القريب تاريخياً؛ فـ”الناس بزمانهم أشبه منهم بآبائهم“، كما يقول حكيم الإنسانية أمير المؤمنين، عليه السلام.
عظمة المنَّة والنِّعمة علينا
فكم هي عظيمة تلك الولادة المباركة الميمونة للحبيب المصطفى، صلى الله عليه وآله وسلم، بحيث جعله الله منّا نحن العرب خاصة، ومن أكرم و أعظم بيت فيهم؛ ألا وهو بيت الشرف والسؤدد والكرامة، ومن شجرة النور المباركة الطيبة، التي ضربها الله مثلاً في كتابه الحكيم، حيث قال: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}. (سورة ابراهيم، الآيتان24-25)
من شجرة الأنبياء، عليهم السلام، وبيت الأوصياء الأتقياء، من ذؤابة قريش وعليائها من شيبة الحمد؛ عبد المطلب ابن عمرو العلى هاشم الخير، حيث جمع الله النور كله في إبراهيم العرب الثاني، ثم فرَّقه بين ولديه عبد الله، وعبد مناف، ثم جمعهما في الحسنين صلوات الله عليهم جميعاً.
عندما وُلد الحبيب المصطفى وُلد الهدى، انبثق النور والضياء، وعمَّ السلام في الأرجاء، لأنه نور الله، وكلمته، ورسوله، وبركته، ورحمته المهداة إلى هذه الحياة، ولذا ترى أن كل المعجزات التي رافقت مولده الشريف تدلُّ وتُشير إلى المشروع الكبير وهو إسقاط عروش الطغاة
فالولادة النبوية الشريفة هي الشمعة، بل الشمس التي طلعت في حالك الظلمات التي كان يعيش فيها العالم أجمع والعرب خاصة، فأنارت الكون بالضياء اللامع، والنور الساطع، فأنعش النفوس، وأحيى القلوب بعد أن كادت أن تموت جهلاً وجاهلية، وتصبح كالصخر الأصم، فأحال ليلها نهاراً مشمساً، وصحرائها إلى جنة غنَّاء، و ربوة فيحاء تنعم بالنور والضياء.
كما أنه جعل من أهل الجهل علماء حملوا مشاعل النور والهداية، وبشَّروا أهل الدنيا بالسلام والمحبة والكرامة والطمأنينة لهم جميعاً، لأنه جاء ليُصلح لهم منظومتهم القيمية الأخلاقية، ويبني للإنسان حضارته العلمية الراقية، وبتلك المعاني نعرف وندرك مدى عظمة النعمة التي ولدت في السابع عشر من ربيع الأول من عام الفيل في مكة المكرمة، وفي بيت الشرف لعبد المطلب من ولده الشهيد عبد الله الذي قضى نحبه في رحلة الصيف إلى الشام ودفن في المدينة قبل أن يرى ولده عظيم الكون ومخلص الإنسانية وهاديها إلى صراط ربها ومنير ظلماتها بأنواره الربانية.
فعندما وُلد الحبيب المصطفى وُلد الهدى، انبثق النور والضياء، وعمَّ السلام في الأرجاء، لأنه نور الله، وكلمته، ورسوله، وبركته، ورحمته المهداة إلى هذه الحياة، ولذا ترى أن كل المعجزات التي رافقت مولده الشريف تدلُّ وتُشير إلى ذلك المعنى العميق والمشروع الكبير له وهو إسقاط عروش الطغاة، وتدمير ممالك الشيطان، وقيام دولة الحق والعدل والإنسان في هذه الحياة، وهي التي يعمُّ فيها الخير والمحبة والسلام وتكون صورة مصغرة عن حياة الجنان في الآخرة.
فالسلام والتحية على نبي الرحمة والسلام، والمحبة والإكرام.
وكل عام وأنتم بنوره متمسكون.