{هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ}.
القرآن الكريم ظاهره حُكُم؛ فهو يذكّر الإنسان بقصص الأنبياء، لكن باطنه علم وبصائر لو نفذت إليها بصيرو الإنسان واستوعبتها، فإنه سيبلغ من العلم والمعرفة مكانا عليّا.
في هذه الآيات الحديث عن رغبة كامنة عند إنسان كامل، كزكريا للحصول على ذريّة طيبة، وهذه الرغبة تكمن عند كل إنسان سوي، سواء كان في مقتبل عمره أو عند الكبر.
الذرية الطيبة هي ذكر للإنسان من بعده، وتحقيق لأهدافه في الحياة، فكثيراً لا يحقق جيل من الصالحين تطلعاتهم في الحياة، وإنما يسعون حثيثا ليحقق الآخرون من بعدهم، أي الجيل الثاني أو الثالث تلك التطلعات.
يقول الرسول الأكرم، صلى الله عليه وآله: “جاهدوا تورثوا ابناءكم عزاً”، فالعزة التي يطلبها المجاهدون ربما لا يبلغونها في حياتهم لسبب أو لآخر، لكنها بالتالي سوف تلحق ابناءهم، وهذه الرغبة هي التي تجعل الانسان يسير في طريق مستقيم، لا يغيره عندما تتأخر حاجاته وتطلعاته، بل يبقى يسعى إليها حتى يصل إليها عاجلاً، أم آجلاً.
كيف يمكن للإنسان أن يحقق رغباته؟
إنّ تحقيق الرغبات إنما يكون بجهد يبذله الإنسان، وفي بعض الأحيان يصل الى حالة الكدح، يقول الله ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ}، والاجتهاد هو وظيفة المرء ووسيلته في الحياة، يقول الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، فالجهاد هو بذل المزيد من الطاقة، والمزيد من الجهد الفكري والعملي، ومكابدة الحياة بكل وسيلة للوصول الى الأهداف، وأمة تجاهد، بل وشخص يجاهد سيصل الى مآربه عاجلا أم آجلا.
الذرية الطيبة هي ذكر للإنسان من بعده، وتحقيق لأهدافه في الحياة
لكن الجهاد لا يكفي، فجيب أن يُقرن بالدعاء، لأن الآية الكريمة تقول: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، الابتغاء الى الله وسيلة، وذلك عبر شفاعة الشافعين، أو عبر الدعاء، والتضرع الى الله ـ سبحانه وتعالى ـ هو جزء من المسؤولية، ووسيلة وسبب لتحقيق النجاح بالجهاد.
وهنا لابد من طرح السؤال التالي: ما هو دور الدعاء في الوصول الى الهدف؟
يقول الله ـ تعالى ـ {وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}، وفي آية {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}.
أساس بعض الفتن التي يتعرض لها الإنسان؛ كالفقر والمرض، واستيلاء الاعداء على مقدراته ومصيره، كإنسان او كشعب، كل ذلك فتن، والله ـ تعالى ـ لا يتلي الإنسان بها بلا سبب، وإنما سبب تلك الفتن التي تصل الفرد، هي تهيئة الوضع المناسب لأن يدعو الله.
لأن المرء في الحالات العادية قد يغفل عن الدعاء، أو ينشغل عنه، ولكن حينما يصل الى طريق مسدود في حياته، فإنه يجأر الى الله ويتضرع إليه، يقول الله ـ تعالى ـ {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ}.
والسؤال هنا: ماهو الدعاء؟ ولماذا اصبح محوراً لأكثر آية وسورة؟
الإجابة عن ذلك في بصائر شتى:
البصيرة الأولى: إنّ على الإنسان ان يعرف مسيره ومصيره بيد الله ـ سبحانه وتعالى ـ، فالله هو الذي يدبّر أمره واليه مصيره، ومعرفة هذه الحقيقة جوهر الإيمان بالرب، فنحن لا نؤمن بربٍ لا يفعل ما يشاء، بل ايماننا بربٍ يفعل ما يشاء وبيده ملكوت السماوات والأرض، وكلمة الرب لا تعني مجرد سلطان او حاكم من دون تأثير، فهو ـ تعالى ـ حاكم ويؤثر في كل صغيرة وكبيرة من حياة الإنسان.
إنّ هدف الحياة هو الرغبة في التكامل والطموح، وذلك ما يثيره الدعاء
حياة الإنسان عبارة عن مواقف عديدة، وتحديات كبيرة، والله ـ تعالى ـ مع الإنسان منذ أن كان نطفة في رحم أمه، وحينما اصبح مضغة فعلقة، وبعد أن خلقه إنسانا سويا، وولد في هذه الدنيا، فهو ـ تعالى ـ مع الإنسان يدفع عنه الأخطار.
فهو رب، وتعني الربوبيّة؛ القيادة المستمرة، والهداية المتواصلة، وكذا الهيمنة المستمرة للإنسان، فإذا وصل المرء الى عمق هذه الكلمة ـ الربوبيّة ـ فقد وصل الى عبادة الله ـ سبحانه وتعالى ـ.
البصيرة الثانية: الإنسان حيمنا يحصل على نعمة ـ أية نعمة ـ تراه يبطر بها، اي يستطيل على الآخرين، ويستكبر، وينظر في عطفيه ( اي يعجب بنفسه)، ولا يأبه بالناس، و البطر هو سبب من أسباب انحطاط الإنسان وتخلفه، لأنه حينما يصل الى مرحلة الفرح أو البطر، أو الامتلاء الروحي، فإنه لا يسعى، ولا يتحرك، والنعمة التي يبطر بها الإنسان أشبه ما تكون بالنقمة.
ولكن كيف يحصل الإنسان على النعم ولا يبطر بها؟
يكون ذلك عبر الدعاء، فهو الصلة المباشرة بين العبد وربه، لكن الناس بعيدون عن الله بسبب غفلتهم عنه، ـ فعلى سبيل المثال ـ نحن جميعنا نتنفس ونرى الطبيعة من حولنا، فهل نتذكر أن الاكسجين الذي في الفضاء يساعدنا على التنفس؟
والأمثلة على ذلك كثير، فنحن نغفل عن الأسباب، خصوصا الأسباب الحقيقة العامة، فملايين النعم تحيط بنا ونحن غافلون عنها، لكن حين نمارس الدعاء ونتضرع الى الله، ثم بعد التضرع ينعم ـ تعالى ـ علينا بنعمة ما، فتلك الفرحة التي تساورنا، لابد أن روح الشكر موجودا له ـ سبحانه وتعالى ـ.
صحيح؛ أن بعض الناس حتى بعد أن ينجيهم من معضلة كبيرة، أو يرزقهم نعمة، فإنهم يكفرون بالله، لكنّ الإنسان ـ عادة ـ مفطور على حب وشكر المنعِم عليه، وهذه هي طبيعة البشر السوي.
لذا فإن الدعاء هو تصحيح لمسيرة وأخلاق الإنسان، ولكي لا تكون هذه الأخلاق سببا للاستكبار والتطاول على الآخرين.
البصيرة الثالثة: الإنسان حيمنا يدعو ربه، ويحصل على النعم التي وفرها الله ـ تعالى ـ له، فإن عليه أن لا يقف عند حدٍّ، لأن معرفتنا بالله تزداد، ومن أبعاد تلك المعرفة، معرفتنا بسعة رحمته، وعظيم نعمته، وقدرته وكرمه، وما اشبه، “وأنه لا تزيده كثر العطاء إلا جودا وكرما”.
وبذلك لا نتوقف عند حد، فإذا حصلنا على نعمة، ندعوه ـ ايضا ـ للحصول على نعم أخرى، فقد يدعو أحدنا ربه بأن يرزقه زوجه، ثم يدعو ان تكون صالحة، بعدها يدعو الله أن يزرق منها على أولاد صالحين، ثم لا يلبث ان يدعو الله ليحفظ اولاده وهكذا تتدرج النعم، والإنسان الذي أوتي الدعاء، تراه لا يتوقف عند حد، وإنما يبقى يتدرج في النعم الإلهية.
وإذا عدنا الى مختلف الأدعية التي وردت عن أهل البيت، عليهم السلام؛ كدعاء الإمام الحسين، عليه السلام، يوم عرفة، وغيرها من الأدعية القرآنية، يدعو الإنسان الى المزيد والمزيد: {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة}، فالحسنة في الدنيا؛ يعني حياة حسنة بكل ما فيها من آفاق، وكذلك في الآخرة.
إنّ هدف الحياة هو الرغبة في التكامل والطموح، وذلك ما يثيره الدعاء، في حديث قدسي: يابن آدم لم اخلقك لاربح عليك بل لتربح عليّ”، ويقول تعالى في كتابه الكريم: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ}، فالله خلق الإنسان حتى يعبده، ويستغني بتلك العبادة عن غير الله، ومن ثم يتدرج في آفاق الكمال في الدنيا وفي الآخرة.
من وحي الآيات:
{هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} نادى الله ـ تعالى ـ نبيه زكريا عبر الملائكة، عندما وقف للصلاة، وليس في تلك اللحظة التي دعاه فيها، فسقطت كل الحجب التي بينه وبين الله عبر التضرع اليه عبر الصلاة، ومعاني هذه الكلمة ـ الصلاة ـ وردت في كثيرة من الآيات والروايات بمعنى الدعاء.
{فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ}، كانت بعض زوايا بيوت الانبياء والأوصياء مخصصة للصلاة، وهو المحراب، وهذه عادة حسنة أن تكون هناك زاوية في بيوتنا للتوجه الى الله.
{فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ}، ويحيى لا يأتي مجرد طفل يولد، وإنما بشّر الله ما سيكون عليه هذا الوليد. {مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنْ اللَّهِ}، فيحيى مصدقا بالنبي عيسى، {وَسَيِّداً}، ومعناه انه قائد، {وَحَصُوراً}، اي انه معصوم، {وَنَبِيّاً مِنْ الصَّالِحِينَ} اي انه داعية الى الله ـ تعالى ـ.
{قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِي الْكِبَر}، وقف كثير من العلماء عند هذه الآية، كيف أن زكريا وهو الذي دعا ربه، والملائكة بشروه، ثم يتساءل: كيف يحصل على غلام وهو كبير في السن هو وزوجته، وهي كانت في أيام شبابها كانت عاقراً، لكنها ـ الآن ـ وهي عجوز تصبح ولوداً!
تساؤل زكريا لم يكن يدل على الشك حسب الظاهر، وإنما لبيان أن هذه ليست الحادثة ليست طبيعية.
والله أراد أن يبين مدى خطورة هذا الأمر، أن شخصا وهو كبير في السن، وامرأته عاقرا، يحصل على ولد ببشارة الرب، ثم إن البشر حتى ـ وإن كانوا أنبياء ـ يبقى يستمد علمه من الله، فهما بلغ من رتبة ودرجة، يستمد العلم والمعرفة من الله ـ سبحانه وتعالى ـ فالأنبياء وهم في عز قوتهم كانوا يستمدون العون والعزم من الله، وهذه أحد الأبعاد الخفية للارتباط والدعاء الدائم مع الله.
{قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ}، هنا زاد الله نبيه إيمانا، واعطاه نفحة جديدة من نفحات الإيمان لكي يزداد صلابة وقوة، فنبي الله ابراهيم حينما سأل الله كيف يحيي الموتى ، فسأله الله: أولم تؤمن؟ قال: بلى ولكن ليطمئن قلبي، فكلما زاد إيمان الإنسان اقترب من الله أكثر وأكثر، وعليه أن يسعى أبدا في زيادة الإيمان، وتنمية الروح {ربنا أتمم لنا نورنا}.
{قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً}، فماذا طلب زكريا من الله؟
هل طلب المزيد من الطمـأنينة؟
أو أنه طلب علامة تدل الناس على الاعجاز الذي حصل له؟
قال بعض المفسرين: أن الله يعطيه آية تدله على أن هذه نعمة منه ـ تعالى ـ.
لكن الظن المحتمل، أن زكريا طلب من الله علامة تدل النعمة التي حصل عليها، وهو حصولهم على مولود في تلك السن المتأخر.
{قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً}، أي ان العلامة التي تجعل الناس يعتقدون أكثر بإستقامتك، وبنبوتك، وعظمتك، هو أن تتوجه الى الله ولا تكلم الناس ثلاثة أيام، وبتعبير آخر اي صوم الصمت، وهذا الصوم لم يشرع في ديننا، وإنما كان في شريعة الأولين.
{وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ}، وخلال الثلاثة الأيام، فإذا كانت له حاجة إنما يبلغم عبر الرمز والإشارة، وخلالها تلك الفترة يتقرب الى الله.
- مقتبس من محاضرة للمرجع المدرسي (دام ظله).