في 8 ربيع الأول 260هـ استشهد الإمام الحسن العسكري مسموماً في سامراء
مقدمة في الانتظار
الأمة الإسلامية ما زالت تجهل مسألة الانتظار، وما تعنيه من قيم ومبادئ في هذه الحياة..
فالانتظار عقيدة وعبادة ليس كمثلها عبادة أخرى، قال رسول الله، صلى الله عليه وآله: “أفضل أعمال أمتي انتظار فرج الله عز وجل“، وعنه، صلى الله عليه وآله: “أفضل العبادة انتظار الفرج“، وعنه، صلى الله عليه وآله: “انتظار الفرج بالصبر عبادة“، وقال أمير المؤمنين الإمام علي، عليه السلام: “أفضل عبادة المؤمن انتظار فرج الله“، وقال: “انتظروا الفرج ولا تيأسوا من روح الله، فإن أحب الأعمال إلى الله عز وجل انتظار الفرج“، وقال الإمام زين العابدين، عليه السلام: “انتظار الفرج من أعظم الفرج“.
فالمسألة ليست بتلك السهولة والبساطة، إذ أن العبادة تحتاج إلى نص وتشريع من الخالق، ونيَّة صادقة مخلصة من المخلوق، وقربى بها إلى الله سبحانه، ولذا علينا أن نُدرك ذلك كله ونعرف معنى أن انتظار الفرج من أعظم العبادات، والقربات إلى الله تعالى في عصر الغيبة، وإذا كان الأمر بهذه الدِّقة والعظمة فكيف سارت الأمور مع الإمام الحسن العسكري، عليه السلام، في تحضيره وتهيئته للأمة لعصر الغيبة الصغرى، ثم الغيبة الكبرى لصاحب الأمر والزمان الحجة، عجل الله ـ تعالى ـ فرجه.
ضرورة التحضير والتهيئة
لا بد لأيِّ عمل كبير من تهيئة وتحضير ليأتي سهلاً وتتقبله الأمة بيسر ولا تتفاجأ به، فكيف هيَّأ الإمام الحسن العسكري، عليه السلام، الشيعة الكرام لزمن الغيبة من بعده، لعلمه بأن ولده المبارك ستكون له غيبة طويلة يحتجب فيها عن مواليه ومحبيه وشيعته وهي على مرحلتين صغرى، وكبرى ما زلنا نعيش في ظلها ونترقب طلعة تلك الغرة الميمونة المباركة لسيدنا وإمامنا أرواحنا له الفداء.
فالإمام الحسن العسكري، عليه السلام، وخلال سنوات إمامته القصيرة ـ ست سنوات ـ كان همُّه الأكبر ينحصر بكيف يأتي ويولد خليفته بعيداً عن عيون السلطة العباسية، ثم كيف يوصل صورته ويُعرِّف الأمة بإمامها المفترض عليها طاعته ومعرفته، هنا يمكن أن نتحدث عن الإبداع الإداري، والتألق الفكري الحضاري للإمام الحسن العسكري، عليه السلام، والمتمثِّل بالنجاح المنقطع النظير في الجانب الاجتماعي والتواصل المضمون مع الشيعة وقيادتهم في تلك البحار المتلاطمة من المشاكل والأزمات والحصار الخانق الذي كان يعيش فيه في سامراء.
فإعداد الأُمة المؤمنة بالإمام المهدي، عليه السلام، لتقبّل هذه الغيبة التي تتضمّن انفصال الأُمة عن الإمام بحسب الظاهر وعدم إمكان ارتباطها به وإحساسها بالضياع والحرمان من أهم عنصر كانت تعتمد عليه وترجع إليه في قضاياها ومشكلاتها الفردية والاجتماعية
والإمام الحسن العسكري، عليه السلام، ككل أجداده الكرام مظلوم أشد الظلم من الأمة الظالمة وحكامها من بني العباس الطغاة الظالمين الذين حاولوا إطفاء ذاك النور، وإسكات ذاك الصوت الحق، ولكن الفطنة والحكمة التي كان عليها الإمام فوَّتت عليهم الفرصة دون تحقيق مآربهم، بل إلتفَّ عليها كلها وحقق رسالته كاملة في الأمة، ولذا لم يتركوه فخافوا على ملكهم فدسوا له السم فقتلوه وهو في الثامنة والعشرين من عمره الشريف، ولكنه ترك للأمة والعالم مخلِّصها من أشرارها وظلمهم، وباني دولة الحق والعدل الإلهية المنتظرة فيهم في قادم الأيام بإذن الله تعالى.
تهيئة المجتمع والشيعة لغيبة إمامهم
كان ذلك من الإمام الحسن العسكري، عليه السلام، بعدد من الخطوات وهي بمجملها ترتبط بمسألة الوكالة والوكلاء التي اعتمدها والده الإمام علي الهادي، عليه السلام، فكان نظام الخاصَّة هو المعتمد في الغيبة الصغرى والتي استمرت حوالي سبعين عاماً (69) وتعاقب فيها أربعة وكلاء معروفين، ثم بدأت فترة الغيبة الكبرى والتي استمرت إلى اليوم وإلى ما شاء الله تعالى، ونسأل الله أن يعجل لوليه الفرج ويسهل له المخرج وأن يجعلنا من أنصاره ومقوية سلطانه.
التعريف بالوكلاء المأمونين
ففي رواية محمد بن إسماعيل وعلي بن عبد الله الحسنيان قالا: دخلنا على أبي محمد الحسن، عليه السلام بسرِّ مَنْ رأى وبين يديه جماعة من أوليائه وشيعته، حتى دخل عليه بدر خادمه، فقال: يا مولاي بالباب قوم شعث غبر، فقال لهم: “هؤلاء نفر من شيعتنا باليمن“، في حديث طويل يسوقانه إلى أن ينتهي إلى أن قال الإمام الحسن العسكري، عليه السلام، لبدر: “فامض فأتنا بعثمان بن سعيد العمري” فما لبثنا إلا يسيراً حتى دخل عثمان، فقال له سيدنا أبو محمد، عليه السلام: “امض يا عثمان فإنك الوكيل والثقة المأمون على مال الله، واقبض من هؤلاء اليمنيين ما حملوه من المال“.. ثم ساق الحديث إلى أن قالا: ثم قلنا بأجمعنا: يا سيدنا والله إن عثمان لمن خيار شيعتك ولقد زدتنا علماً بموضعه من خدمتك وأنه وكيلك وثقتك على مال الله، قال: “نعم، واشهدوا على أن عثمان بن سعيد العمري وكيلي وأن ابنه محمداً وكيل ابني مهديكم“. فنظام الوكلاء الذي أبدعه الأئمة، عليه السلام، كان مقدمة لاتخاذ السفراء ثم المراجع الكرام.
التحضير الروحي والنفسي
هذا النظام الراقي بهذا البيان المحكم من الإمام الحسن العسكري، عليه السلام، أوضح للأمة الإسلامية معالم القيادة الربانية فيها، ولم يتركهم هملاً كما يدَّعي الآخرون من اتباع الحكام والطغاة الظالمين، “فإعداد الأُمة المؤمنة بالإمام المهدي، عليه السلام، لتقبّل هذه الغيبة التي تتضمّن انفصال الأُمة عن الإمام بحسب الظاهر وعدم إمكان ارتباطها به وإحساسها بالضياع والحرمان من أهم عنصر كانت تعتمد عليه وترجع إليه في قضاياها ومشكلاتها الفردية والاجتماعية، فقد كان الإمام حصناً منيعاً يذود عن أصحابه ويقوم بتلبية حاجاتهم الفكرية والروحية والمادية في كثير من الأحيان.
فهنا صدمة نفسية وإيمانية بالرغم من أن الإيمان بالغيب يشكّل عنصراً من عناصر الإيمان المصطلح، لأنّ المؤمنين كانوا قد اعتادوا على الارتباط المباشر بالإمام، عليه السلام، ولو في السجن أو من وراء حجاب وكانوا يشعرون بحضوره وتواجده بين ظهرانيهم ويحسّون بتفاعله معهم، والآن يُراد لهم أن يبقى هذا الإيمان بالإمام حيّاً وفاعلاً وقويّاً بينما لا يجدون الإمام في متناول أيديهم وقريباً منهم بحيث يستطيعون الارتباط به متى شاءوا”. (أعلام الهداية الإمام العسكري (ع): ص166)
ولتخفيف تلك الصدمة هيَّأهم الإمام الهادي أولاً، ثم الإمام العسكري، عليهما السلام، لتلك الفترة العصيبة الغير معهودة، فأعدُّوهم الإعداد الدِّيني، والعقائدي، والثقافي الفكري، بتقوية عقائدهم بأصل الإمامة، كما أعدوهم الإعداد النفسي والروحي بوجود القيادة الشرعية التي تكون صلة الوصل بين الأمة والإمام، وهم السفراء الأربعة في الغيبة الصغرى والمراجع في الكبرى.
الإيمان بالإمامة والإمام
وكان يؤكد الإمام العسكري، عليه السلام، على مبدأ الإيمان بأصل الإمامة والولاية المرتبطة بالغيب وشجّع شيعته على الثبات والصبر وانتظار الفرج، فقد حدّث أبو علي بن همّام قائلاً: سمعتُ محمد بن عثمان العمري (قدس الله روحه) يقول: سمعتُ أبي يقول: سُئل أبو محمد الحسن بن علي، عليهما السلام، وأنا عنده عن الخبر الذي روي عن آبائه، عليهم السلام: “إنّ الأرض لا تخلو من حجة لله على خلقه إلى يوم القيامة وأن مَنْ مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية“، فقال عليه السلام: “إنّ هذا حقّ كما أنّ النهار حق“، فقيل له: يا ابن رسول الله فمَنْ الحُجة والإمام بعدك؟ فقال: “ابني محمّد هو الإمام والحجة بعدي؛ مَنْ مات ولم يعرفه مات ميتة جاهلية، أما إنّ له غيبة يحار فيها الجاهلون، ويهلك فيها المبطلون ويكذب فيها الوقّاتون، ثم يخرج فكأني أنظر إلى الأعلام البيض تخفق فوق رأسه بنجف الكوفة“. (كمال الدِّين الشيخ الصدوق: 409).
كان يؤكد الإمام العسكري، عليه السلام، على مبدأ الإيمان بأصل الإمامة والولاية المرتبطة بالغيب وشجّع شيعته على الثبات والصبر وانتظار الفرج
وحدّث موسى بن جعفر بن وهب البغدادي فقال: سمعتُ أبا محمد الحسن، عليه السلام يقول: “كأني بكم وقد اختلفتم بعدي في الخلف منّي، أما إن المقرّ بالأئمة بعد رسول الله، صلى الله عليه وآله، المنكر لولدي كمَنْ أقرّ بجميع أنبياء الله ورسله ثم أنكر نبوّة رسول الله، صلى الله عليه وآله، والمنكر لرسول الله، صلى الله عليه وآله، كمَنْ أنكر جميع الأنبياء، لأن طاعة آخرنا كطاعة أوّلنا والمنكر لآخرنا كالمنكر لأوّلنا، أما إنّ لولدي غيبة يرتاب فيها الناس إلاّ من عصمه الله عزّ وجل“.
وحدّث الحسن بن محمد بن صالح البزّاز قائلاً: سمعتُ الحسن بن علي العسكري، عليهما السلام يقول: “إنّ ابني هو القائم من بعدي وهو الذي يُجري فيه سنن الأنبياء بالتعمير والغيبة حتى تقسو القلوب لطول الأمد فلا يثبت على القول به إلاّ من كتب الله عزّ وجلّ في قلبه الإيمان وأيّده بروح منه“. (كمال الدِّين الشيخ الصدوق: 524).
خلاصة البحث
كان الإمام الشهيد المسموم الإمام الحادي عشر من أئمة المسلمين الحسن العسكري، عليه السلام، يهتمُّ كثيراً في تعريف الأمة بإمامها الحجة بن الحسن، عجل الله ـ تعالى ـ فرجه، ثم تهيئتها نفسياً وروحياً وعقائدياً وعملياً لغيبته الصغرى والكبرى فكان نظام الوكالة والوكلاء، ثم السفارة والسفراء، هي من تلك الخطوات الهامة والضرورية لربط الأمة بمبدأ الولاية، وتعريفهم بالولي والإمام المفترض الطاعة، لتسير العملية بسهولة ويسر فيها، ولا يُشكل غيبة إمامها عقدة لها في عقيدتها وعبادتها وروحيتها.
فآلاف التحية والسلام على الشهيد المسموم المظلوم وعلى ولده الحجة بن الحسن المنتظر، عجل الله ـ تعالى ـ فرجه، وعظم الله أجركم يا مؤمنين بشهادة الإمام الحسن العسكري عليه السلام.