عندما نأتي على ذكر أحد أولياء الله الصالحين ونروم الحديث عنه بحثاً عن الدروس والعبر، تستوقفنا مشكلة التاريخ، فقد شحّ علينا ذكر أحوال أولئك الصالحين، بينما يعجّ هذا التاريخ بتفاصيل موائد الملوك وعدد جواري الامراء وحجم الثروة عند هذا وعند ذاك، وما قال وقيل من قبيح القول وسخافة الرأي والطرح.
وهذا ما يواجه الكاتب عن السيدة سكينة ابنة الامام الحسين عليه السلام، التي عاشت سبعين عاماً تخللتها احداث جسام في المجتمع والامة، ابرزها واعظمها وقعاً فاجعة كربلاء وكان له من العمر حينها اربعة عشر عاماً، وهذه بالحقيقة تُعد علامة فارقة في سيرة الاعلام، وهي ليست شخصية عادية، لكن هذا وذاك وغيره من علامات الاستفهام، تجعلنا نصل الى صورة متكاملة – تقريباً – لهذه السيدة الجليلة والمظلومة كظلامة آبائها، ونحن نستذكرها في وفاتها في الخامس من شهر ربيع الاول سنة 117 للهجرة.
سَكِينة .. السكون المتفكّر
ولدت للامام الحسين عليه السلام، بنت من زوجته الرباب بنت امرؤ القيس وسمّاها (آمنة) على اسم والدة جده النبي الاكرم صلى الله عليه وآله، ثم لقبتها امها (سكينة)، بفتح السين وكسر الكاف، ليكون اسماً خاصاً بالاسرة العلوية، ويظهر أن هذا اللقب جاء نظراً لصفة السكون والهدوء التام التي كانت تتحلى به سيدتنا الجليلة، ثم ما لبث ان تحول هذا اللقب الى اسم لها، وحتى إن الامام عليه السلام، درج على لسانه الكريم اسم (سكينة)، ولشدما كان يحبها ويحنّ عليها ويحرص على مشاعرها الرقيقة، وهو القائل فيها ابياته المشهورة:
لعمرك انني لاحب داراً
تحلّ بها سكينة والرباب
احبهما وابذل جل مالي
وليس للأمي فيها عتاب
شهدت مع أهل بيتها واقعة الطف وتلك المواجهة الفاصلة بين الحق والباطل، وكانت حينئذ إمرأة متكاملة ناضجة، فقد قضت الأربعة عشر عاماً تحت رعاية وإشراف سيد الشهداء عليه السلام، ولا يخفى ما لهذه التربية المباشرة من قبل المعصوم من أثر بالغ في بناء شخصيتها ومن النواحي كافة العلمية والدينية والاخلاقية، فضلاً عن تأثير البيئة الأُسرية المتضمنة لاكثر من معصوم و شخصيات اخرى كانت بحق واصلة الى الدرجات العلى من العلم والمعرفة والتهذيب.
قضت السيدة سكنية اربعة عشر عاماً تحت رعاية وإشراف سيد الشهداء عليه السلام، ولا يخفى ما لهذه التربية المباشرة من قبل المعصوم من أثر بالغ في بناء شخصيتها
وفي ساحة المعركة وفي اللحظات الاخيرة المفجعة حيث كان الامام الحسين عليه السلام يروم توديع العيال، كانت سيدتنا سكينة تحمل سكينتها العجيبة وهدوئها وركونها المثير للشجون، فيروى أن الامام عليه السلام، رأى ابنته العزيزة واقفة في مكانها طرف الخيمة لا تتكلم سوى بالدموع، فعزّ عليه أن يرى ابنته على هذا الحال، فتوجه اليها يكلمها مصبّرا لها:
سيطول بعدي يا سكينة فأعلمي
منك البكاء اذا الحمام دهاني
لا تحرقي قلبي بدمعك حسرة
مادام مني الروح في جثماني
فإذا قتلت فأنت أولى بالذي
تأتينه يا خيرة النسوان
وبعد واقعة الطف وما جرى فيها من أحداث ومصائب ابرزها السبي، فقد اشتركت في إماطة اللثام عن الزيف الاموي، وإيصال رسالة أبيها الى الناس، مجاهدةً الى جانب نساء بيت الوحي وعلى رأسها العقيلة زينب عليه السلام.
وفي المدينة بعد واقعة الطف انتقلت سكينة إلى رعاية الإمام السجاد عليه السلام، حيث عاشت حياة حافلة بالعلم والأدب والنشاط الاجتماعي، وكان خصومها يقرّون لها بنسبها ومناقبها فكانت السيدة سكينة سيدة نساء عصرها وأوقرهنّ ذكاءً وعقلاً وأدباً وعفة، وكانت تزيّن مجالس نساء أهل المدينة بعلمها وأدبها وتقواها، وكان منزلها ندوةً دائمة للعلم والفقه والحديث يؤخذ أديم العلم من منبتها وإليها القول الحق بما أدبت وعلمت.
فضحية المزورين
كما أن مهمة التاريخ الملكي والسلطوي تهميش الصلحاء والثوار وكل من يشكل خطراً على كرسي الحكم، فان الاقلام المأجورة ومشاعر العداء والبغض لأهل البيت عليهم السلام، والكره لكل قيم الفضيلة والحق والعدل، تدفع بالبعض لأن يتقوّل ويفتري للنيل من تلكم الشموس المضيئة، لاسميا اذا كان المقصود هو إمرأة في مرحلة الشباب.
وقد توهم كتاب البلاط والسلاطين أن مرحلة ما بعد واقعة الطف، هو الغلبة والهيمنة لصالح الحكام والطغاة، مما دفعهم للتجرأ على السيدة الجليلة سكينة بنت الحسين سيد شباب أهل الجنة، والصاق تهم وافتراءات واقوال لا تستقيم مع العقل وبعيدة كل البعد عن شخصيتها وتربيتها النبوية والعلوية.
فقد جاء في بعض الكتب ان السيدة الجليلة كانت ترعى أندية الشعر واللهو اوالغزل وكان الشاعر الاموي عمرو بن أبي ربيعة يتغزل بها في تلك المجالس، كذباً و زوراً.
وقبل الرد على هذه الفرية، لابد من الاشارة الى أن الحقبة التي عاشتها سيدتنا الجليلة كان يحكمها الزبيريون المعرفون للقاصي والداني بحقدهم وضغينتهم على اهل بيت رسول الله، ولعل هذه فرصتهم بوجود شخصية هادئة بعيدة عن الاضواء ليشيدوا حولها جداراً كاذباً ضناً منهم انه يفصلها عن الحقيقة، فقد سئل المرحوم الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء طاب ثراه عن فرية اجتماع الشعراء لديها وقال: (لم يذكره ابن قتيبة ولا ابن طيفور في بلاغات النساء مع أنهما أقدم من أبي الفرج). واضاف: (كتاب أبو الفرج، كتاب لهو وقد أخذ عن الكذاب حماد الذي جاءت عنه الرواية كذاب).
في المدينة بعد واقعة الطف انتقلت سكينة إلى رعاية الإمام السجاد عليه السلام، حيث عاشت حياة حافلة بالعلم والأدب والنشاط الاجتماعي، وكان خصومها يقرّون لها بنسبها ومناقبها فكانت السيدة سكينة سيدة نساء عصرها وأوقرهنّ ذكاءً وعقلاً وأدباً وعفة
وممن نقل هذه الأكاذيب الزبير بن بكار وهو معروف بعدائه لأهل البيت عليهم السلام، وقد كان يضع المفتريات في رجالهم ونسائهم حتى أرادوا قتله، ففر من مكة إلى بغداد أيام المتوكل ذكر ذلك ابن خلكان في وفيات الأعيان، فكيف يوثق بنقل من هذا شأنه وموقفه من أهل البيت عليهم السلام ودأبه الرواية عن الوضاعين والكاذبين .
أما الدليل الاكبر على هذه الفضيحة التاريخية والثقافية فهي وجود (سكينة بنت خالد بن مصعب بن الزبير)، ويتذكر القارئ من يكون مصعب؟ ذلك الذي اقتحم الكوفة وقتل الالاف من المسلمين في يوم واحد للانتقام من منافسة القديم المختار بن عبيدة الثقفي، وكان ما كان من قتله مع زوجاته واهله وحزّ رأسه ووضعه في طشت امامه.
و (سكينة) هذه كانت معروفة في التاريخ بانها كانت ممن يتغزل بها عمرو بن أبي ربيعة، كما ينقل ذلك أبو الفرج نفسه في (الأغاني) ولكن البغض والشنآن لأهل البيت وتخفيفاً من العار والشنار عن أعدائهم قلبوا الاسم عن عمد وإصرار من سكينة الزبيرية إلى سكينة بنت الحسين شهيد كربلاء .
والفرية الأخرى على سيدتنا الجليلة زواجها المتعدد، فذُكر لها من الأزواج عبد الله بن عثمان، وعمرو بن حكيم، ومصعب بن الزبير وربما غيرهم، حتى روى (الزبير بن بكار) أنها تزوجت بستة أزواج! وكل هذه الزيجات مكذوبة ومختلقة وناقشت رواياتها الدكتورة بنت الشاطئ في كتابها (سكينة) من موسوعة آل النبي وقالت: “فليس بالغريب أن ترفض الشيعة هذه الروايات جميعاً وقد تعارضت فتساقطت، وكذب بعضها بعضاً، وجاوزت نطاق المعقول”.
وقال السيد المقرم في كتابه عن سكينة: “وحينئذ فلا تغفل أيها الفطن عما اثبته الأندلسي (أبو الفرج) والزجّاج والحصرى وسبط بن الجوزي والبيهقي فإن المصدر حسبما تبعناه وفحصناه هو آل الزبير ومن مال ميلهم مثل الهيثم بن عدي وصالح بن حسان وأضرابهم ممن طعن فيهم أرباب التراجم”.
أما المصادر الموثوقة لنا تؤكد انها سلام الله عليها لم تتزوج إلا ابن عمّها عبد الله بن الامام الحسن عليه السلام.
محاربة حتى الموت
في يوم وفاتها اشترى محمد بن عبد الله ذو النفس الزكيّة عطراً وعوداً بأربع مائة دينار وأحرقها حول نعشها الطاهر وقد رام خالد بن عبد الملك حاكم المدينة إهانة الجنازة بسبب حرارة الجو بتأخير تشيعها وقال: إصبروا حتى آتي للصلاة على الجنازة لكنه لم يأت، لذا بقيت الجنازة بلا دفن حتى الليل. لكنها دفنت في المدينة المنورة قرب جدها رسول الله صلى الله عليه وآله في هكذا ايام سنة 117 فسلام عليها من مظلومة شهيدة.