قال أمير المؤمنين، عليه السلام: “لا مال اعود من العقل ولا مصيبة اعظم من الجهل ولا مظاهرة اوثق من المشاورة ولا ورع كالكف عن المحارم ولا عبادة كالتفكر”
من الأمور المهمة التي يحتاج اليها الإنسان، ومن أهم مقومات التفكير السليم هي معرفة الأولويات، حينما يتمكن الإنسان من ذلك، يختصر الطريق، ويصل الى هدفه بجهد أقل، وفترة زمنية أقصر.
لذلك من الضروري أن نرفع مستوى تكفيرنا الى أن نصل الى القدرة على التمييز بين المفاهيم والأشياء، وبين القدرة على معرفة الأولويات.
الإنسان خلق لهدف سامٍ لكن حين يجهل ذلك الهدف، فيسعى ويتحرك ويكون اختياره لهوامش الحياة فيضيع الهدف، لعدم قدرته على تشخيص الأولويات، وذلك بسبب الهوى والشهوات، والمصالح، أو لأي سبب كان.
من الضروري أن نرفع مستوى تكفيرنا الى أن نصل الى القدرة على التمييز بين المفاهيم والأشياء، وبين القدرة على معرفة الأولويات
القرآن الكريم يرسم لنا الأولويات عبر آياته الكريمة؛ يقول الله ـ تعالى ـ: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا}، فأسوأ اختيار أن يختار الإنسان على الآخرة، فالآخرى أولى من الدنيا، ولا يتعارض أن يبني الدنيا من أجل الآخرة.
“لا مال اعود من العقل ولا مصيبة اعظم من الجهل ولا مظاهرة اوثق من المشاورة ولا ورع كالكف عن المحارم ولا عبادة كالتفكر”، في هذه الحديث يضع لنا الإمام، علي، عليه السلام، المفاهيم الحقيقة لبعض الأشياء، ويبيّن الأولى فيها، وما هي الأشياء التي تعود على الإنسان بالنفع، وبهذا فهو، عليه السلام، يضع أكثر الأولويات التي تعود على الانسان بالخير.
“لا مال أعود من العقل” رأس المال هو الذي يعطي الإنسان القوة والقدرة، فرأس المال الذي يحتاجه ـ الإنسان ـ هو العقل؛ فهو يعود بالنفع لصاحبه، فالفطرة الطبيعة أن يبحث المرء عن مصالحه ومنافعه التي لا تتناقض مع القيم، والبحث وراء ذلك أمر إيجابي، ولذلك فالإنسان الذي يدفع الضرر ويجلب النفع دلالة نضجه عقله.
أم المصائب
“ولا مصيبة أعظم من الجهل” المصيبة الحقيقيّة التي يغفل عنها الانسان هي الجهل، فالبعض يتصور أن المصيبة الوحيدة هي نزول الموت بأحد الأقارب، كأن يكون الأب، أو الأم، أو الجد..، لكن هذه المصيبة تهون، لأن الإنسان إذا صبر يُثاب عليها فعبر هذه المصيبة يرتقي الفرد؛ يقول الله ـ تعالى ـ: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ}، فنتيجة هذه المصيبة هي البشارة؛ أي الجنة.
لكن حينما يكون الإنسان جاهلا تبعا لهواه، ولم يكن لديه معرفة بالله ولا بدينه، فيكون جاهلا بصلاته، وجاهلا بقيادته وبما يراد منه، تكون النتيجة النار والعقاب؛ إذاً فالمصيبة الحقيقيّة هي الجهل.
فالعبارة الأولى من الحديث تدعونا الى تنمية العقل واكماله، وهذا هو الهدف الاسمى، لأنه بقدر العقل يُثاب الإنسان، والعبارة الثانية؛ تدعونا الى التخلص من الجهل؛ عبر المعرفة بأحكام الدين، ومحاربة النفس والشهوات.
“ولا مظاهرة أوثق من المشاورة” الظهير من الظهر، وهو الشيء الذي يعضد، وظهر الإنسان تعبير عن القوة، فالظهير الذي يستوثق منه لبناء الفكر هي المشورة، ولا يعني ذلك استشارة إنسان جاهل، بل هناك صفات لأهل الشورى {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}، وهم اصحاب التقوى، وذوو الرأي السديد، واصحاب الخبرة في الأمر المُستشار فيه، يقول الإمام علي، عليه السلام: “من خاب من استشار”.
فالإنسان ليس كاملا في كل شيء، فإذا كان رجل دين فليس بالضرورة أن تكون له دراية بالطب، أو إذا كان طبيبا فليس ـ أيضا بالضرورة أن يكون له دراية بأحكام الدين، فالإنسان بحاجة الى قوة تعضده، وأعظم قوة له، هي مشاروة من يحق له ان يُستَشار.
هل تغني العبادة من دون تفكّر؟
“ولا ورع كالكف عن المحارم”، فالورع يعني الترك، وللأسف فإن البعض يترك المسجد، والصلاة، والدين، والعلم وما شابه من الخصال الحميدة، لكن المطلوب أن تركه هو المحرمات، فالاعتداء على الآخرين حرام، وكذلك الغيبة، والنميمة، وما أشبه. يقول الإمام علي، عليه السلام: “ولايتنا لا تُنال إلا بالورع والتقوى”.
فحقيقة الولاية لأهل البيت، عليهم السلام، هي الكف عن المحرمات، أما من يرتكب المحرمات، ثم يأتي ليقول أنه موالٍ ومحب لأهل البيت، فهذا غير صحيح، لأن المحب يطيع؛ يقول الشاعر:
تَعصي الإِلَهَ وَأَنتَ تُظهِرُ حُبَّهُ
هَذا مَحالٌ في القِياسِ بَديعُ
لَو كانَ حُبُّكَ صادِقاً لَأَطَعتَهُ
إِنَّ المُحِبَّ لِمَن يُحِبُّ مُطيعُ
في كُلِّ يَومٍ يَبتَديكَ بِنِعمَةٍ
مِنهُ وَأَنتَ لِشُكرِ ذاكَ مُضيعُ
“ولاعبادة كالتفكّر” لا تُقارن أي عبادة بالتفكر في أمر الله، “ليس العبادة كثرة الصلاة والصيام إنما العبادة التفكر في أمر الله”.
يقول الله ـ تعالى ـ: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ}، فالتفكر أوصله الى المعرفة الحقيقية للوجود، {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}، اخترقت بصيرته كل الحُجب حتى رأى النار بتلك البصيرة.
لو كان بعض من يدّعي الإيمان والعمل الديني يتفكرون لتغير واقع المجتمع، لذلك ترى بعض رواد المساجد يحارب القيم واصحابها، بل وصل بالبعض الى حمل راية العداء لمرجع متقٍ
ولذا لا شيء أفضل من التفكر في أمر الله؛ في الجنة، والنار، والحساب، وما أشبه، فالله ـ تعالى ـ لم يخلق الكون عبثا، يقول الإمام العسكري، عليه السلام: “ما خُلقنا للعب”، فلم نُخلق لتكديس الأموال، وإنما لتنمية العلم، يقول الله ـ تعالى ـ: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}، جاء في الرواية: إلا ليعلمون”.
فالعبادة أي عبادة لابد أن تكون بتفكّر، فنصلي، ونقرأ القرآن الكريم، وندعو الله، كل ذلك وغيره يجب أن يكون بتفكّر.
فعلى سبيل المثال؛ البعض يقرأ القرآن دون أي تفكر، ولذا جاء في الحديث: ” رب تالٍ للقرآن والقرآن يلعنه” وفي رواية أخرى: “إن الله تجلى لعباده في كتابه ولكن الناس لا يبصرون”. فقد يبحث البعض عن آية في القرآن الكريم، تبرّر مساعيه الفاشلة في الحياة.
لو كان بعض من يدّعي الإيمان والعمل الديني يتفكرون لتغير واقع المجتمع، لذلك ترى بعض رواد المساجد يحارب القيم واصحابها، بل وصل بالبعض الى حمل راية العداء لمرجع متقٍ، فهل تُعد هذه من عبادة الله؟! أو يقوم البعض بهدم مشروع ديني، لأنه ليس مشروع حزبه وجماعته.
العبادة الساذجة هي تلك التي لا تنعكس على السلوك، فيُعلَّم البعض ألفاظ يرددها اللسان دون أن ترى ذلك على السلوك الخارجي للفرد، يقول الله ـ تعالى ـ: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ}، فإذا كانت الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، فتلك هي الصلاة المطلوبة وهي صلاة بتفكّر، أما إذا صلى ـ الفرد ـ وبعدها يقوم بإرتكاب المحرمات، فذلك يعني أن تلك الصلاة بعيدة عن التفكر.
إنّ أفضل ما يعود بالنفع على الإنسان هو علقه، ولذا لابد أن تصب جهودنا في تنمية العقل، وأكبر مصيبة تواجه الإنسان هي الجهل، ولذلك يجب أن يكون كل سعينا الى التخلص من الجهل، كذلك فإن من المشاورة تعضد عقل المرء وتفتح أمامه تجارب الآخرين، وهذه وغيرها من الخصال الحميدة التي ذكرتها في الرواية، يجب أن نسعى لتحصيلها، لننمي بذلك شخصياتنا وعقولنا.