يحتاج الناس عادةً لثقل أجسادهم بالقوة باستمرار عن طريق دورة تدريبية مكثفة أو دخولهم نادٍ رياضي، والروح أيضاً تحتاج لدورة نفسية مكثفة، تحتاج لتخرج من حبِّ الأنا إلى روح الجماعة، وهذا ماتحققه في كل عام شعيرة المشي للإمام الحسين، عليه السلام، روحي وأرواح العالمين له الفداء.
إنَّها بمثابة تخلٍ عن الأنانية وحب الذات والذوبان في الجماعة، ونبذ الغرور المعنوي، فهي معسكر لتهذيب الشهوات، دواء للتكبر، مكان لتعزيز الأخوة.
وقد وصلت آخر الاحصائيات في الأعوام الاخيرة عن عدد السائرين في هذه المسيرة المليونية، وماسمتها الدول المعادية بالأفعى السوداء إلى ماتعدَّى الثمانية عشر مليون زائر حسيني من كل بقاء الأرض.
في هذا المشي أيضاً إظهار لقوة وشدة شوكة وتماسك أتباع ومحبي أهل بيت رسول الله عليه وعلى آله أفضل الصلاة والسلام، في قبال ارعاب قلوب النواصب وأعداء أهل البيت
ربما يخطر في الذهن سؤال، ترى هل من دليل على استحباب المشي للحسين، عليه السلام؟
والجواب: لقد ورد عن أبي الصامت قال : سمعت أبا عبد الله، عليه السلام، وهو يقول: “من أتى قبر الحسين عليه السلام ماشياً كتب الله له بكل خطوة ألف حسنة ومحى عنه ألف سيئة ورفع له الف درجة”.
هذا عن المشي للإمام الحسين عليه السلامفي الأيام العامة، أمَّا عن خصوص زيارة الأربعين، ففيه تأسٍ بالحسين عليه السلام، وعائلته وذويه، وما تحمَّلوه من مصاعب ومآسي، وماجرى على النساء والأطفال من عناء جسدي ونفسي تعجز عن وصفه الألسن والقلوب تتألم له، فكيف بهم وهم يمشون إلى ماقدَّره الله لهم بكل نفس مطمئنة راضية، قال الإمام الحسين عليه السلام: “شاء الله أن يراني قتيلاً، وشاء الله أن يراهن سبايا”.
وروي عن أبي محمد الحسن العسكري عليه السلام، أنَّه قال : “علامات المؤمن خمس : صلاة إحدى وخمسين، وزيارة الأربعين، والتختم باليمين، وتعفير الجبين، والجهر ببسم الله الرحمن الرحيم”.
وروي عن الحسين بن ثوير بن أبي فاختة، قال : قال أبو عبد الله، عليه السلام: “يا حسين من خرج من منزله يريد زيارة قبر الحسين بن علي، عليهما السلام، إن كان ماشيا كتب الله له بكل خطوة حسنة ومحى عنه سيئة، حتى إذا صار في الحائر كتبه الله من المفلحين المنجحين، حتى إذا قضى مناسكه كتبه الله من الفائزين، حتى إذا أراد الانصراف أتاه ملك فقال: إن رسول الله، صلى الله عليه وآله، يقرؤك السلام ويقول لك: استأنف العمل فقد غفر لك ما مضى”.
القلوب والأجساد المنغمسة في الدنيا تتحول إلى قلوب رؤوفة عطوفة محبَّةٍ ملؤها العزم والارادة لرفع مشاكل الزائرين وخدمتهم أفضل خدمة، وهذا ليس كلاماً نظرياً بل شيء ملموس صرَّحت به تصريحات رسمية بعض المؤسسات المعتبرة
وفي هذا المشي أيضاً إظهار لقوة وشدة شوكة وتماسك أتباع ومحبي أهل بيت رسول الله عليه وعلى آله أفضل الصلاة والسلام، في قبال ارعاب قلوب النواصب وأعداء أهل البيت، هو بمثابة رسالة لهم ولكل طغاة الأرض ” لقد فشلتم في محاربتنا والقضاء على أهل الحق، لقد فشلتم في اسكاتنا ألسنتنا.”
آثار وفوائد زيارة الأربعين :
في مسيرة الأربعين يتقاطر المؤمنون من كل حدب وصوب من كل مكان على إختلاف ألسنتهم وألوانهم حباً وشوقاً لسيد الأحرار الإمام الحسين، عليه السلام، تأييداً لحركته المباركة وتأكيداً للإلتزام بخطه ونهجه المبارك، ولهذه المسيرة آثار ونعمٌ جمَّة لاتحصى بالطبع ولكن نذكر بعضها وأهمَّها :
1- تعزيز الأخوِّة الإيمانية الموالية:
فالسائرون على درب الحسين عليه السلام، يعيشون هذه الأحاسيس بأعلى صورها وأشكالها فعَنْ أَبِي بَصِير، قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عليه السَّلام، يَقُولُ: “الْمُؤْمِنُ أَخُو الْمُؤْمِنِ، كَالْجَسَدِ الْوَاحِدِ إِنِ اشْتَكَى شَيْئاً مِنْهُ وَجَدَ أَلَمَ ذَلِكَ فِي سَائِرِ جَسَدِهِ، وَ أَرْوَاحُهُمَا مِنْ رُوحٍ وَاحِدَةٍ، وَ إِنَّ رُوحَ الْمُؤْمِنِ لَأَشَدُّ اتِّصَالًا بِرُوحِ اللَّهِ مِنِ اتِّصَالِ شُعَاعِ الشَّمْسِ بِهَا ” .
2- الشعور بالعزة والفخر بالانتماء للحسين عليه السلام:
فالسير بجانب الملايين متوجهاً لأبي الأحرار تشعر بالفخر والعزة بالانتماء لهذا الخط العظيم والمدرسة الشريفة، ولسان الحال يقول : {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ}، و(الحمد لله على نعمة الهداية والولاية).
٣- التكافل الاجتماعي:
فهذه القلوب والأجساد المنغمسة في الدنيا تتحول إلى قلوب رؤوفة عطوفة محبَّةٍ ملؤها العزم والارادة لرفع مشاكل الزائرين وخدمتهم أفضل خدمة، وهذا ليس كلاماً نظرياً بل شيء ملموس صرَّحت به تصريحات رسمية بعض المؤسسات المعتبرة.
يقول أحد الزائرين : ” إننا في مسيرة الحسين عليه السلام يوم الأربعين وقبل ذلك وبعده كنا نأكل ونشرب وننام ونستمتع بالنعم والخيرات ما لم يتيسر لنا مثلها في سائر أيام وشهور السنة.”
بالاضافة إلى التبرعات التي تُجمع خلال سنة بأكملها لدعم هذه الخدمة والمواكب، فقد أُنشأت مؤسسات خدمية لرعاية شؤون المؤمنين المعزِّين في كافة المجالات الطبية والغذائية وحتى الثقافية، ولاشكَّ أنَّ هذه الأمور تنهض بها العواطف الجياشة بين الخَدَمَة فيما بينهم، وبين الزائرين المحبين الذين يعبَّر عنهم في روايات أهل البيت عليه السلام، بأيتام آل محمد عليه وعلى آله السلام.
فقد ورد عن أبي محمد العسكري عليه السلام قال : حدثني أبي، عن آبائه، عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال: “أشد من يتم اليتيم الذي انقطع عن أبيه يتم يتيم انقطع عن إمامه ولا يقدر على الوصول إليه، ولا يدري كيف حكمه فيما يبتلي به من شرائع دينه، ألا فمن كان من شيعتنا عالماً بعلومنا وهذا الجاهل بشريعتنا المنقطع عن مشاهدتنا يتيم في حجره ألا فمن هداه وأرشده وعلمه شريعتنا كان معنا في الرفيق الأعلى”.
٤- الشعور بالمساواة بين السائرين :
فهناك لا فرق بين عربي وأعجمي إِلاَّ بالتقوى، يتساوى في المسير الأبيض والأصفر والأسود، يتساوى الغنيُّ والفقير، الصغير والكبير، العالم والجاهل، الرجل والمرأة..، الكل يعود لانسانيته فالتفاضل الحقيقي هنا يظهر بأسمى تجلياته والتفاضل هنا يكون بالإيمان الصحيح والعقيدة الحقَّة التي تجعله لايرى ولايبالي بكل الفروقات الزائفة. كلهم سائرون في نفس الطريق وعلى نفس النهج، يرددون ” لبيك ياحسين.. لبيك ياحسين .”
٥ – الظهور في صفٍ واحد أمام أعداء الإمام الحسين عليه السلام:
دعانا الله لذلك في كتابه العزيز، قال تعالى : {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ}. ومن أبرز مصاديقه ما نراه بين صفوف المؤمنين أثناء زيارة الأربعينية، فهم كتلةٌ واحدةٌ يصعب ثنيها فهم صفٌ واحد في حبِّ الحسين، عليه السلام، وهذا له الأثر الكبير في بقاء هذه الشعيرة واستمرارها بالرغم مما تعرضت له عبر التاريخ من قبل الطغاة والناصبيين.
٦- تعارف الناس وأخوَّتُهم في الله:
وهذا الهدف الذي أراده الله للبشرية جمعاء وتبادل الخبرات والتجارب على مختلف المجالات. قال ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}.
والمسيرة خيرُ وأبرزُ مصداقٍ للتعارف، فالناس تأتي من كل أصقاع الأرض: ايران، سوريا، باكستان، لبنان، الهند، إندونيسيا، أمريكا، أستراليا… وغيرها لأجل السير لهدف واحد.
أمَّا الأخوة في الله فلها الكثير من الشأن عند الله، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “المؤمنون أخوة تتكافى دماؤهم، وهم يد على من سواهم، يسعى بذمتهم أدناهم”.
وعنه أيضاً، صلى الله عليه وآله: “ألَّا وإنَّ المؤمنَيْن إذا تحابَّا في الله عزَّ وجلّ وتصافيا بالله، كانا كالجسد الواحد إذا اشتكى أحدهما من جسده موضعاً وجد الآخرُ ألم ذلك الموضع”.
وعن أمير المؤمنين عليه السلام: “من آخى في الله غَنِم، ومن آخى في الدنيا حُرِم”.
فأعلى درجات الأخوَّة في الله عندما يُؤثِر إنسان إنساناً آخر على نفسه، يضحِّي من أجله، عندما يبذل ما عنده من النفس والنفيس له، ونرى هذا بأعلى درجاته في المسيرة الأربعينية العظيمة.
هذه بعض الفوائد الإجتماعية، وهناك الكثير من الفوائد على الصعيد الاقتصادي والشخصي لايتسع المجال لذكرها هنا.
إنَّ فلسفة مسيرة الأربعين فلسفة تعجز العقول عن إدراكها، ويكلُّ الذهن عن فهمها، وستبقى هذه المسيرة المليونية من الألغاز التي حيرت التاريخ والجغرافيا بعفويتها وبساطتها، وستبقى حلبة سباق بين خدام زوار الحسين عليه السلاملخدمة زواره بكل فئاتهم العمرية شيوخ ونساء وأطفال، تلك هي مسيرة العشق.
وفي النهاية نقول في مسيرتنا لجدِّك الحسين، عليه السلام: سيدي ومولاي ياصاحب الزمان ” جئنا ببضاعة مُزجاةٍ فأوفِ لنا الكيل و تصدَّق علينا إنَّ الله يجزي المتصدقين “.