{رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ * رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ}.
يتساءل المرء حينما يقرأ كتاب الرب وبيانه، عن طائفة من البشر وهبَ الله لهم نعمة الرسوخ في العلم، بينما سائر الناس قد يكونون يفسرون الآيات الكريمة حسب اهوائهم لأن في قلوبهم زيغ.
ويتساءل المرء ـ أيضا ـ كيف يمكنه الوصول الى تلك الدرجة العالية التي يقول عنها ربنا: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ}، فكيف يستطيع الإنسان ـ الذي هو وجود محدود ـ الى درجة الرسوخ في العلم؟
الآيات الكريمة تطرح الإجابة على ذلك عبر عدة بصائر:
البصيرة الأولى: كما أن اليقين درجات، كذلك العلم درجات، والعلم قد يكون سطحيا وقد يكون عميقاً، وهو كاليقين؛ هناك يقين، وعين اليقين، وحق اليقين، وباعتبار أن تأويل الآيات الكريمة شيء مهم جداً، لذلك فهو لا يؤتى إلا لمن درجته في العلم عالية، اي راسخ في العلم، حيث يقول الله ـ تعالى ـ:{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ}.
والرسوخ في العلم هو دفع كل شبه وثغرة في علمه، ومشكلة الإنسان هي اختلاط الأهواء مع المعلومات والمعارف ووساوس الشيطان، ومن المهم جدا أن نميّز المرء بين العلم من جهة، وبين الهوى، والثقافات الجاهلية من جهة أخرى، ذلك أن مصادر العلم واضحة، فمصدر العلم العقل، و هو ـ العقل ـ يعتمد على الحس والوحي.
يجب أن لا نبخل على انفسنا، فالبخيل هو الذي لا يدعو ربه، ولا يريد التقدم والتكامل، وبعض الاحيان يصل البعض قناعة مفادها: (أنه يكفي هذا المقدار من العلم والمعرفة) وهذه فكرة خاطئة، لان الإنسان لا يدرِ أي امتحان ينتظره في المستقبل
وعندما يصل الإنسان الى مستوى العلم تطمئن نفسه ويستطيع أن يعتمد عليه، بينما تبقى الوساوس الشيطانية في غير ثبات، لأن الانسان يتردد بالظن والوسوسة، لان مصدر الظن هوى النفس، وهي مصدر الشهوات.
وربنا ـ سبحانه وتعالى ـ بيّن في كتابه المجيد ـ كما النبي وأهل بيته، صلوات الله عليهم ـ الكثير من اسباب الجهل وجنوده، كما بينوا عوامل العلم وجنود المعرفة والعقل.
وورد في روايات أهل البيت، عليهم السلام، أن للجهل سبعين جنديا، كما أن للعلم سبعين، وكلما تجاوز الإنسان درجة من جنود الجهل، وصل الى الى درجة العلم بنفس المستوى.
البصيرة الثانية: كيف يستطيع الإنسان ان يواجه عواصف الشهوات وأعاصير الضغوط؟ فهو بشر ويتعرض للفتنة! فهناك الشيطان الجنّي والإنسي، وهناك جهل المرء الذاتي؛ فكيف يتخلص من ذلك؟
يكون ذلك بالعلم الذي يأتي من الرب ـ سبحانه وتعالى ـ، فالمؤمن ينظر بنور الله ويستمد علمه منه ـ تعالى ـ ومن التوجه إليه.
ولذلك بين ربنا ـ سبحانه وتعالى ـ أن علم الراسخين في العلم إنما هو من الله، يقول ـ جل وعلا ـ: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ}، لكن النور الذي يعتمده المؤمن الراسخ في العلم ـ الذي هو من الله ـ يمكن أن يزول في أيّة لحظة، لذلك ترى المؤمنين يتضرعون الى ربهم أن لا يأخذ منهم هذا النور، {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا}، والآية التي قبل هذه في سورة آل عمران بيّنت كيف أن الذي يحمل في قلبه زيغا يعتمد على المتشابه، لذا فإن الخلاص من الزيغ لا يكون إلا بالعلم، واستمرار العلم يكون بالدعاء.
المؤمن يتشبث بحبل الله ويعتصم به، لكن عندما يقل تشبثه فإن الحبل ينطقع وبالتالي يسقط المرء، لذلك فإن المؤمنين في تضرع دائم وعلاقة مستمرة مع الرب: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا}.
البصيرة الثالثة: المؤمنون لا يكتفون بنعم الله التي اصبغها عليهم، إنما يسعون من أجل المزيد لذلك ترى هؤلاء يقولون بعد {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا} ـ يقولون ـ: {وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً}، وقد يتساءل المرء: كيف تسأل الله أن يعطيك الرحمة؟
رحمة الله واسعه ومن اسمائه ـ تعالى ـ الوهاب فالمؤمن يطلب المزيد من رحمة، ويضيفها الى تلك النعم التي اعطاه الله، وفي الدعاء نقرأ: “لاتزيده كثرة العطاء إلا جوداً وكرما” .
لذا يجب أن لا نبخل على انفسنا، فالبخيل هو الذي لا يدعو ربه، ولا يريد التقدم والتكامل، وبعض الاحيان يصل البعض قناعة مفادها: (أنه يكفي هذا المقدار من العلم والمعرفة) وهذه فكرة خاطئة، لان الإنسان لا يدرِ أي امتحان ينتظره في المستقبل، لانه اذا كان علم الفرد محدودا، ورسوخه غير ثابتا، فإن اي امتحان يعترضه يسقط فيه، وعلى هذا يجب أن نطلب المزيد والمزيد من العلم.
أن الدينا والآخرة كفتان قد تتعادلان، وقد تكون لأحداهما رجحان على الآخرى، فالمؤمن حين تتكاثر عليه الضغوط يتوجه الى الآخرة، لكي يصبح عنده نوعاً من التعادل بينهما ـ الدنيا والآخرة
البصيرة الرابعة: يعيش الانسان دائما مع ضغوط الحياة، وقد تكون كثيرة ومترادفة بحث يرى المرء نفسه عاجزاً عن مواجهة هذه الضغوط، فكيف يصنع في مواجهة تلك الضغوط؟
ذلك يكون ببيان بصيرة معينة: أن الدينا والآخرة كفتان قد تتعادلان، وقد تكون لأحداهما رجحان على الآخرى، فالمؤمن حين تتكاثر عليه الضغوط يتوجه الى الآخرة، لكي يصبح عنده نوعاً من التعادل بينهما ـ الدنيا والآخرة ـ.
ـ فمثلا ـ الشاب وهو في عنفوان شبابه لا تتركه ضغوط الشهوة الجنسيّة، لكن السبيل الى مواجهة تلك الضغوط؛ يكون بعدم النظر الى المرأة الأجنبية، ولا يفكر بالحرام، ويكون ذلك بالتفكير بالآخرة، فصرف النظر عن الأجنبية فيه فوائد كثيرة منها: أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ يزرقه حوريةً في الجنة، وعبر هذا يخلق ـ الشاب ـ التعادل بين شهوات الدنيا ونعم الآخرة.
قد يُعرض على الإنسان مال حرام، كأن يكون رشوة، والشطيان يدفعه نحو ذلك، لكن العقل يخاطبه: كيف تترك نعيم الآخرة الباقي الذي لا زوال له، بمال حرام ينتهي في أي لحظة، مضافاً إليه دخولك نار جهنّم. ولذا علينا حين نتعرض الى الضغوط المختلفة تذكّر الآخرة، لأن ذلك التذكر يخلق نوع من الطمأنينة والسكينة.
{رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ}، ويبدو أن هذه الآية تكمل للآية السابقة، {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ}، فالآية جاءت لتبين كيف يمكن للإنسان أن يحافظ على استقامته عبر تذكّر الآخرة، {إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ}، بجمع الناس، ولا يخلفه بحسابهم وبالتالي اعطائهم ما يستحقون من الثواب والعقاب.
———————–
- مقتبس من محاضرة للمرجع المدرسي ( حفظه الله).