يقول الإمام الصادق، عليه السلام: “ومفتاح الجهل الرضا والاعتقاد به، ومفتاح العلم الاستبدال مع إصابة موافقة التوفيق”.
الخطوة الأولى لإصلاح النفس هي معرفتها، ومعرفة خبايها الداخلية، وحينما يعرف الإنسان نفسه يسهل عليه معالجتها
الإنسان لا يولد عالما فالله ـ تعالى ـ يُخرجه من بطن أمه لا يعلم شيئا، يقول الله ـ تعالى ـ: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}، صحيح أن الجهل متأصل في ذات الإنسان، لكنه يملك قابلية المعرفة والعلم، كما أُلهمت هذه النفس الفجور فإنها ـ أيضا ـ أُلهمت التقوى، بل فطرت على التوحيد إلا أن المرء يغفل وينسى فيحتاج الى تذكير، والذي يخشى ربه هو الذي يتذكّر، ولا يخشى الرب إلا من عرفه، ولا يعرف الرب إلا من عرف نفسه.
ومن الأمور التي يحتاج الإنسان الى معرفتها هي مفتاح جهله ومفتاح علمه، فمفتاج الجهل هو الرضا، فالفرد يرضى بواقعه وبما هو فيه ـ وأكثر الناس كذلك ـ إلا ما ندر، فهو يسعى ليلاً ونهارا من أجل كسب المال ولا توجد عنده قناعة في هذا الاتجاه، لكن على قناعة بضحالة المعرفة التي يمتلكها.
القناعة من العلم!
الروح هي التي تقوقع الإنسان؛ فعدم رضاه بالمال يجعله يسعى أكثر لكسبه، وإذا عدنا الى حياة بعض من نعرفهم، ففي بدايات حياته لم يكن يملك شيئا لكنه بعد فترة حصل على وظيفة، فتضاعفت أمواله، فاشترى سيارة، وبيت، وما اشبه، لكن رصيد المعرفة لم يتغيّر، فهو لم يقرأ كتابا، ولم يتدبر في القرآن الكريم، ولم يتأمل في الدعاء، ولم يتفكر في خلق الله! فالمعرفة لم تتغير لأنه راضٍ بما هو فيه.
وللأسف هناك معلمون ـ من كلا الجنسين ـ واسم معلم مشتق من العلم، لكنهم لا يفتحون كتابا، فالتعليم عند هؤلاء وظيفة للمال، فالقناعة تجاه المال معدومة عندهم، لكن قناعتهم تجاه العلم والمعرفة متوقفة.
علينا الالتفات الى انفسنا من أن تصيبنا حالة الرضا بالجهل أو الإعتقاد به، أو أن هذا المستوى الذي نحن فيه هو مستوى جيد، أو نعتقد ونرسخ في أنفسنا أننا لن نتعلم، أو يرضى البعض بوضعه العلمي الذي هو فيه
الأسوأ من ذلك هناك بعض العلماء لا يقرأون كتبا، وشعلهم الشاغل التنقل من بيت الى بيت، ومن وجيه الى آخر، فهو يريد كسب الواجهة وبعض الأمور الأخرى، لذلك رضي بما هو فيه فيبقى في ذلك المستوى، يقول الله ـ تعالى ـ: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً}. ويقول في آية أخرى {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ}.
أما حال بقية الناس مع العلم فحدث ولا حرج، فمجتمعنا ليس لديه الإستطاعة لقراءة صفحة واحدة بداعي (ما لي خلك)، فهو لا يريد أن يتعلم و يقرأ، لكن لكسب المال وقتل الفراغ تراه يبذل جهدا كبيرا في ذلك.
يقول الإمام علي، عليه السلام: “منهومان لا يشبعان؛ طالب علم وطالب مال”، العالم الحقيقي لا يشبع من العلم، لأنه كلما ازداد علما ازداد معرفة بجهله، فحينما يكتشف معلومة جديدة يدرك أنه يجهل أكثر مما يعلم.
يقول بعض علماء الفلك: أن ما يعلمونه من هذا الكون هو 3% والباقي يجهلونه، وبعد أن توسعوا أكثر في علمهم قالوا: أن ما نعلمه 1,15% والباقي لا يعرفون عنه شيئا، وهذا في جانب الكون والفلك؛ فماذا عن حقائق النفس؟
البعض ليس لديه القناعة لتعلم الأحكام الشرعية، بل الأدهى من ذلك أن البعض ليس مستعدا لمعرفة وتعلّم المعتقدات فيكتفي بالمعلومات التي لديه.
لماذا الخوف من التعلم؟!
“ومفتاح الجهل الرضا والاعتقاد به”، لهذه الجملة بعدين:
الأول: التهرب من أن يصبح ـ البعض ـ عالما خوفا من الحساب، وهذا بحد ذاته جهل، فيقرأ هذه الرواية: إن الله يغفر للجاهل سبعين ذنبا قبل أن يغفر للعالم ذنبا واحداً”، لكن الحقيقة أن الله ـ تعالى ـ حينما يدخل الناس الى الجنّة، فإن العلماء الربانيين هم أول الداخلين، فالعالم العابد هو الذي يُضيء نوره يوم القيامة.
لذا علينا الالتفات الى انفسنا من أن تصيبنا حالة الرضا بالجهل أو الإعتقاد به، أو أن هذا المستوى الذي نحن فيه هو مستوى جيد، أو نعتقد ونرسخ في أنفسنا أننا لن نتعلم، أو يرضى البعض بوضعه العلمي الذي هو فيه!
البعض يرسّخ في نفسه ويعتقد أن ليس بقدوره أن يكون خطيبا، أو كاتبا، او طبيبا، او مهندسا، أو عالما في أي مجال من المجالات.
من الأمور التي يحتاج الإنسان الى معرفتها هي مفتاح جهله ومفتاح علمه
لذلك جاء في الرواية: “اطلبوا العلم من المهد الى اللحد”، وفي رواية أخرى: “ما رام امرؤ أمرا إلا ناله أو دونه”، “والمرء حيث يضع نفسه”، فالله ـ تعالى ـ لم يخلق الإنسان ليبقى في مستوى واحد.
نحن لدينا القدرة للتصنيع والإبداع، وهذا ليس محصورا عند الغرب فقط، إنما نحتاج الإرادة للقيام بذلك، ففي الجانب الطبي هناك أمراض يعتقد الاطباء في بلداننا ان الغرب فقط من يستطيع اكتشاف علاجها! فهل الله خلق في الغرب مخترعا ومبدعا ولم خلقنا كذلك؟
“ومفتاح العلم الاستبدال”، كما أن للجهل مفتاح، فإن للعلم مفتاح، جاء في روايات أهل البيت، عليهم السلام، أن مفتاح العلم “السؤال”، وهو تعبير عن البحث (اسأل عن دينك حتى يقال عن مجنون).
فمفتاح العلم الاستبدال؛ أي استبدال العلم بالجهل وهو أن يستبدل الإنسان واقعه ولا يرضى به، فعلى سبيل المثال إذا استُبدلت عملة قديمة بجديدة فإن الجميع يسعى الى بيع القديمة والحصول على الجديدة، لأن تلك القديمة ستكون بعد مدّة من الزمن غير مقبولة.
لكن مع الأسف فإن البعض في مجتمعنا يستبدل العلم بالجهل، فالبعض حين يدرس علم ما ويرجع الى المجتمع؛ فبدل أن يرفع من مستوى المجتمع، يتراجع هو في نفسه، ويرجع الى السلوكيات، والعادات، ويستسلم للواقع.
“مع إصابة موافقة التوفيق”، فلابد أن نعتقد أن العلم توفيق من الله، والتوفيق منه ـ جل وعلا ـ له أرضيّة وليس بالمزاج، فهو ـ تعالى ـ جعل مجموعة من الأسس للحصول على العلم؛ منها بالتعلّم، والتقوى، “واشعر قلبك التقوى تنل العلم”.
يقول الإمام علي، عليه السلام: “وإن هاهنا لعلم جما لو وجدت له حملة”، فالعلم مسؤولية وأمانة، يدافع به الإنسان عن القيم، وليس للتبرير أو للعبث.
والعلم الحقيقي هو الذي يكون بتوفيق من الله، “فليس العلم بكثرة التعلم وانما هو نور يقذفه الله في قلب من يشاء” قد يحصل على معلومات لكنه لن يحصل على العلم، وهناك فرق بين العلم والمعلومات.
لذا نحن بحاجة الى أن نستبدل جهلنا بعلمنا، فإذا واجهنا موضوع لا نعرفه، علينا أن نتفكر فيه، وإذا ابتلينا بمسـألة شرعية فإن علينا العودة الى الرسالة العملية، وإذا كان فقيهاً فإنه سيبحث في الروايات فيستنبط حكما جديدا.
وكل ذلك لن يكون إلا بتوفيق من الله، والتوفيق بحاجة أرضية وهي التقوى “واشعر قلبك التقوى تنل العلم”، وذلك عبر التواضع للحق والعلم” تواضع للحق تكن أعقل الناس”، بالاضافة الى الاستعداد للمدافعة عن الحق.
إن للجهل رضى نفسي وهو الذي يُقعد الإنسان عن العلم والتعلّم وهذا هو مفتاحه، وكما له ـ الجهل ـ مفتاح، فإن للعلم مفتاح ـ أيضا ـ وهو الاستبدال؛ أي استبدال الجهل بالعلم، وفي هذه المرحلة علينا أن لا نتكاسل بل نسعى الى التعلم المصاحب للتقوى.