لا يختلف اثنان في أن التربية عملية فردية، وجماعية، ومجتمعية؛ وهي – في الوقت ذاته – عملية مستمرة مدى الحياة.
ونتذكر – أنا ومن هم من جيلي – أن وزارة التربية كانت – في السابق – تسمى وزارة “المعارف”، ثم سميت وزارة “التعليم.”
ونظرا لأهمية التربية وسَبْقها على التعليم، تغير مسمى هذه الوزارة الى وزارة “التربية والتعليم”، ولم يبقَ على السنتنا سوى مسمى “التربية”؛ وهذا عين الواقع والحقيقة؛ فالتربية أولا ثم التعليم.
وقد سبق القرآنُ الكريم علماءَ التربية والاجتماع في طرح هذه الحقيقة؛ بل وذهب الى المدى الذي أكد فيه على أن مهمة رسول الله، صلى الله عليه وآله، هي التزكية أولاً، ثم التعليم؛ كما جاء في الآية الثانية من سورة الجمعة المباركة وهي قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}. (سورة الجمعة: 2).
و رسول الله، صلى الله عليه وآله، نفسه بَيَّنَ بوضوح تام أن الهدف من بعثته المباركة هو إتمام مكارم الأخلاق؛ حيث قال قولته الشهيرة: “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”.
ليس من الصحيح، مطلقا، أن يفرق الرادود بين خطيب وآخر، سواء بالتفضيل، او بالتهميش؛ فليس ذلك من خُلُق الإسلام الحنيف، ولا من خُلُق الرسالة الحسينية المباركة، ولا من التربية الصالحة في شيء
وعلى الرغم من أن كل صفة في رسول الله، صلى الله عليه وآله، عظيمة؛ فعلمه عظيم، وشجاعته عظيمة، وتقواه عظيمة، وإيمانه عظيم، وعبادته عظيمة، وزهده عظيم، وتربيته عظيمة، حيث قال: “أدبني ربي؛ فاحسن تأديبي”؛ إلا أن الصفة التي اختارها الله لوصف عظمة رسوله، صلى الله عليه وآله، بها هي صفة الخُلُق دون غيرها من الصفات؛ حيث وصفه الله في الآيات ٢ و٣ و٤ من سورة القلم مخاطبا إياه: {مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}.
وقد سردنا هذه المقدمة تمهيداً لموضوعنا الذي يتعلق بدور الرادود في المشروع التربوي، والذي يقع في ست نقاط.
أولاً: الرادود ونفسه:
الرادود – كأي إنسان في المجتمع – يحتاج أولا أن يربي نفسه على الفضائل، وعلى تجنب أضدادها.
وبصفتي – وبكل تواضع وفخر – احمل شرف هذه الخدمة الحسينية منذ ما يقرب من نصف قرن من الزمان؛ أوصي نفسي دائما وأبداً، ثم أوصي أخواني الأعزاء الرواديد الكرام بضرورة التمسك بمكارم الأخلاق؛ ليكونوا هم نماذج للمربين الفاضلين الذين يحتذى حذوهم.
وفي تقديري المتواضع، أن من اهم ما يحتاج اليه الرادود هو الإخلاص في الخدمة الحسينية، والابتعاد كليا عن الرياء والسمعة؛ فما كان خالصاً لله ينمو ويتقبله، وما كان خالصا للمعصومين الأربعة عشر ومن بينهم الامام الحسين، عليهم السلام، ينمو، ويتقبلونه.
وعلى الرادود أن يربي نفسه على غض الطرف عن الإساءات اليه، والإشاعات حوله، وأن يسمعها من أذن، ويخرجها من أذنه الأخرى.
وعلى الرادود، أيضا، أن يكون متواضعا؛ ليس لمن هم اكبر منه وأعلم فحسب، بل لمن هم أصغر منه عمراً وأقل منه خبرة.
واذا استطاع الرادود أن يكون قليل الكلام؛ فليكن كذلك، وليكتفِ بالابتسامة الحانية بدلاً من الكلام الكثير، او الدخول في النقاش، والجدال، والمراء.
ثانيا: الرادود والشاعر
الرادود والشاعر وجهان لعملة واحدة، إلا أن يكون الرادود شاعرا، او الشاعر رادودا، والعلاقة بين الرادود والشاعر قد تكون حساسة، ويمكن أن تنهار لأي سبب؛ بل لأتفهه.
وما لم يكن الرادود والشاعر – كلاهما – متمسكين بالاحترام المتبادل في ما بينهما، وغض الطرف عن الإساءة غير المقصودة من كل منهما تجاه الآخر؛ فان العلاقة بينهما قد تكون في مهب الريح.
وبحسب أصول التربية الصالحة، فان العلاقة بين الرادود والشاعر يجب أن تكون في القمة، او ما دونها بقليل.
وانا شخصيا، ورغم علاقاتي الطيبة مع عدد لا بأس به من الشعراء الحسينيين الحاليين، إلا أنني اقرأ – اكثر ما اقرأ – لشعراء متوفين؛ لأنني أخشى ان أسيء التعامل مع الشاعر، ولا أكون في مستوى المسؤولية المطلوبة في التعامل معه.
وفي كل الأحوال؛ فان الرادود إنسان بمجموعة مشاعر، وكذا الشاعر، والمشاعر الإنسانية كالمرآة تتأثر بأقل خدش.
إن زمام الأمر بيد الرادود والشاعر؛ وان كل واحد منهما يستطيع ان يرتقي بالعلاقة بينهما الى مراتب عليا في هرم التربية.
ثالثا: الرادود والخطيب
على الرغم من عدم وجود علاقة ظاهرة مباشرة بين الرادود والخطيب؛ إلا أن كلا منهما يكمل الآخر في الخدمة الحسينية.
وعلى الرادود أن يربي نفسه على احترام الخطيب، واحترام دوره، واحترام وقته؛ فلا يدخل في اختصاص الخطيب، ولا يأخذ من الوقت المخصص له.
وفي العشرة الأولى من محرم هذا العام، دُعيت للمشاركة في القاء (قصائد لطمية) في منزل احد العلماء الأعلام في كربلاء المقدسة.
وفي اليوم الاول للمجلس انتهى الخطيب من قراءة النعي والمصيبة؛ فأخذت دوري في “اللطمية”، وأنهيتها بالدعاء؛ وهو امر متعارف في بعض المجالس الحسينية، اذ يترك الخطيب فقرة الدعاء للرادود؛ فيختم الرادود “اللطمية” بالدعاء.
وبعد الانتهاء من المجلس، أشار عليّ احد الخطباء أن أترك فقرة الدعاء للخطيب؛ ففعلت؛ فكنت أسلم اللاقطة للخطيب بعد انتهائي من القصيدة اللطمية ليختم هو بالدعاء.
أن من اهم ما يحتاج اليه الرادود هو الإخلاص في الخدمة الحسينية، والابتعاد كليا عن الرياء والسمعة؛ فما كان خالصاً لله ينمو ويتقبله، وما كان خالصا للمعصومين الأربعة عشر ومن بينهم الامام الحسين، عليهم السلام، ينمو، ويتقبلونه
وقد سردت هذا المثال لأُذَكّر بان الرادود اذا تلقى اقتراحا كهذا من صاحب المجلس، او من احد الحضور؛ فلا باس أن يلبيه؛ فلا ضير في ذلك.
وليس من الصحيح، مطلقا، أن يفرق الرادود بين خطيب وآخر، سواء بالتفضيل، او بالتهميش؛ فليس ذلك من خُلُق الإسلام الحنيف، ولا من خُلُق الرسالة الحسينية المباركة، ولا من التربية الصالحة في شيء.
رابعا: الرادود وجمهور “اللطامين”
لكل رادود جمهوره من “اللطامين”؛ قلّ أم كثُر، وقد يجد الرادود نفسه بين جمهوره فقط، ومعهم فقط. لا بأس في ذلك؛ ولكن حذارِ أن يكوِّن لنفسه “حاشية” خاصة به، لأن بعض أفراد الحاشية قد يقرب له البعيد، ويبعد له القريب، ويوشوش عليه؛ ومن ثم قد يقع هذا البعض في محاذير شرعية؛ لا سمح الله.
ويستطيع الرادود، اذا كانت له حاشية، أن يربي أفرادها على مكارم الأخلاق، وان يصارحهم بانه لا يحب الغيبة، والهمز، واللمز، والتنابز بالألقاب تجاه أي خطيب، او شاعر، او رادود، وتجاه أي جمهور لأي واحد منهم.
وبعد أن يربي الرادود نفسه على مكارم الأخلاق، عليه أن يأخذ دوره في تربية الآخرين والمشاركة الفعالة في العملية التربوية الجماهيرية بذات المستوى الذي يقف فيه أمام جمهوره.
وذات مرة، وفي ذكرى استشهاد احد الأئمة الأطهار، عليهم الصلاة والسلام، وعندما كان احد الرواديد على المنبر، والمعزون يلطمون؛ ادخَلوا النعش الرمزي للإمام إياه، فتضايق كثيرا، وطلب رد النعش بعبارة مهينة للنعش، ولحامليه، وللمعزين؛ فماذا حصل له بالضبط في مثل هذا الموقف؟
لقد نسي، ولو للحظات، انه رادود، وانه من خَدَمَة الامام الحسين، عليه السلام، وانه مربٍ لجمهور اللطامين، والمشاهدين، والمستمعين؛ فتلفظ بهذه العبارة المهينة.
أن الذين يشاركون في اللطم تحت يد الرادود والذين تشخص أبصارهم اليه والى إدارته “دفة عزاء اللطم”؛ يراقبون سلوكه، وأخلاقه، وحركاته، وسكناته، ويريدون أن يروه مثالاً للخلق الحميد، والسلوك الحسن، والتربية الصالحة؛ حتى يقتدوا به.
خامسا: الرادود وصاحب المجلس
صاحب المجلس الحسيني قد يكون متولي الحسينية، او مشرف الهيئة، او مسؤول الموكب؛ ونحوهم. ولعل علاقة الرادود بصاحب المجلس هي الأطول في سلسلة علاقاته الفردية.
وصاحب المجلس – عادةً – رجل ذو خبرة وسَبْق في الخدمة الحسينية. وعلى الرادود أن يحترم الوقت المخصص له من قبل صاحب المجلس، وان يلتزم به، وان لا يتجاوزه، وان يتحمل الكلام الذي قد لا يتحمله غيره، وهذا من حسن التربية وكرم الأخلاق.
وقد يحصل أن يتفق صاحب المجلس مع الرادود على المشاركة اللطمية؛ ثم يعتذر له في اللحظة الأخيرة لسبب غير مقبول لدى الرادود؛ على الأقل، ورغم أن هذا التصرف ليس صحيحا في ذاته؛ إلا أن على الرادود أن يتقبله برحابة الصدر قدر الإمكان حتى اذا مر الموسم دون مشاركته فيه ؛ فذلك من حسن التربية، وكرم الأخلاق؛ أيضا.
ولابد ان يؤثر مثل هذا السلوك الإيجابي الرفيع في سلوك، وتربية، وأخلاق، جميع الأطراف الذين يتعامل الرادود معهم.
سادسا: الرادود ومكارم الأخلاق
لعله من المفيد، هنا، أن نذكر بعض عناوين مكارم الأخلاق، والتي يتحتم علينا جميعاً، ومعنا الرواديد الكرام، أن نتحلى بها، وكذلك بعض عناوين أضدادها والتي يتحتم علينا جميعا أن نتجنبها؛ والتي تشكل – في مجموعها – منظومة المشروع التربوي الصحيح.
فمن الأخلاق الفاضلة: الإخلاص، والتواضع، والحلم، ومداراة الناس، وكظم الغيظ، والرضى بالقسمة، والستر على الناس، وطيب اللسان، وشكر النعم، وبشاشة الوجه، وإعانة الضعفاء، وإفشاء السلام، والصدق، والصبر، والعفو عن الناس، والعفة، وتعظيم المؤمنين؛ ونحوها.
ومن الأخلاق المذمومة: الافتخار، واحتقار الناس، وعدم المبالاة، وحب المدح والإطراء، والحسد، والحقد، وخلف الوعد، والرياء، وسوء الظن بالله وبالناس، وسوء المحضر، ودناءة الهمة، والطمع، والعجلة، والغضب، والتفكّه بأمور الناس، و إثارة الفتنة، وعدم الشكر، وكثرة المزاح؛ ونحوها.
إنّ الرادود الحسيني شريك قوي في النهوض بالمشروع التربوي الذي تحتاجه الأمة لترقى الى آفاق المجد والكمال، وان دوره “حلقة” في “سلسلة”؛ اذا انفرطت، تعثرت العملية التربوية، وقد ينذر ذلك بسقوط المشروع التربوي برمته؛ لا سمح الله.
——————————
* تم نشره في العدد المزدوج لمجلة الهدى (293 -294).
مقال تربوي رائع فهو خطة ومنهج للرواديد ومن يسير في هذا الاتجاه
الكاتب قد وضع عصار تجربته في هذا المقال اذ المقال هذا ليس هذرا بل هو تجربة شخصية خلال سنون طوال
وفق الله الكاتب وبارك الله بهذه المجلة المباركة التي في الحقيقة اشعر بإرتياح شديد لوجود هكذا منصات ثقافية تدر علينا بالحكم والمواعظ والرؤى والبصائر التي قلما نجدها في اماكن اخرى قد ضيعت الهدف وجعلت من اهدافها الشهرة وووو
بارك الله في العاملين