في الشام، عاصمة الدولة الأموية، حيث مظاهر الفرح والابتهاج في الشوارع والطرقات بدخول موكب سبايا أهل بيت رسول الله، صلى الله عليه وآله، والقصر يزهو بالنصر على سيد شباب أهل الجنة، وآخر ابن بنت نبي في الأرض، كان من بقي من أسرة الامام الإمام الحسين، عليه السلام، على باب مسجد، فدنا منهم شيخ كبير أراد أن يبدي رأيه فيما يجري أمامه، فقال: “الحمد لله الذي قتلكم وأهلككم، وأراح البلاد من رجالكم و أمكن أمير المؤمنين منكم”!
فقال له الإمام زين العابدين، عليه السلام: “يا شيخ! هل قرأت القرآن؟! قال: نعم، فقال: فهل قرأت هذه الآية {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}؟ قال الشيخ: قد قرأت ذلك، فقال له الإمام: فنحن القربى يا شيخ، ثم قال له: وهل قرأت هذه الآية {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى}؟ قال نعم، فقال الإمام: فنحن القربى يا شيخ، وقال الإمام: وهل قرأت هذه الآية: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}؟ قال الشيخ: قد قرأت ذلك، فقال الإمام: فنحن أهل البيت الذين خُصصنا بآية التطهير يا شيخ!
إن نور القرآن الكريم، ونفحاته الايمانية العميقة هي التي جعلت قلب الإمام الحسين أصلب من الحجر والحديد، وجعله لا ينظر الى بعين الله ـ تعالى- فهو صائر إليه عما قريب، فلن تكون الحياة وما فيها من ملذات وجذابيات
تقول الرواية: فبقي الشيخ ساكتاً نادماً على ما تكلّم به وقال: بالله إنكم هم؟! فقال الإمام السجّاد: تالله إنا لنحن هُم من غير شكّ، وحق جدنا رسول الله، إنا لنحن هُم، فبكى الشيخ و رمى عمامته، و رفع رأسه إلى السماء وقال: اللهم إني أبرء إليك من عدو آل محمد من جن وإنس ثم قال: هل لي من توبة؟ فقال له: نعم، إن تبت تاب الله عليك، وأنت معنا، فقال: أنا تائب، فبلغ يزيد بن معاوية حديث الشيخ فأمر به فقتل.
ليضع أي انسان نفسه مكان الإمام زين العابدين، وهو إمام معصوم، و سليل النبوة والرسالة السماوية، وله قدرات وامكانات هائلة، وكرامة عند الله ـ تعالى- ربما إن اراد شيئاً يتحقق له بإذن الله ـ تعالى- بيد أن رضي أن يبقى كإنسان عادي مع عماته واخواته واهل بيته، وهو ما يثقل النفس عبأ آخر يضغط على أي انسان تضعه السلطات الحاكمة مع زوجته وافراد أسرته في جانب الطريق كمتهم ومدان ينظر اليهم الناس، ويتشمتون بهم.
هذا الصبر والحلم في تلك اللحظة، جسّد الامتداد الرسالي لصبر وحلم الإمام الحسين، عليه السلام، وهو يخوض المعركة مع جيش عمر بن سعد، حيث كان حتى اللحظات الاخيرة يستنصر الناس ويحذرهم غضب الجبّار من التمادي في غيّهم والسقوط المريع في جريمة قتله، فكان يستمد قوته وثباته في الساحة أمام الاعداء بهذا الصبر والحلم، حتى في أصعب اللحظات على نفس كل أب يجد ابنه الرضيع يقتل على يديه، ولو أن ما حصل للإمام مع رضيعه لن يتكرر لأي انسان في العالم، فأول كلمة صدرت منه، عليه السلام، وهو يتحسس دماء الرضيع في كفه: “هوّن ما نزل بي إنه بعين الله”.
لمن يتابع خطب وكلمات الامام الحسين، عليه السلام، يوم عاشوراء يجدها مطعمة بالآيات الكريمة “وإنْ لَم تقبلوا مِنّي العُذر ولَم تعطوا النّصف من أنفسكم، {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ}، (سورة يونس، الآية71)
وفي مسيرة السبي كانت العناية الإلهية ناظرة بعين لا تنام، والإيمان العميق والخالص بها هو الذي كان يطمئن أهل البيت وفي المقدمة؛ الامام السجاد وعمته العقيلة، عليهما السلام، ويشدّ على قلوبهم، ويخفف عنهم وعن النساء الأخريات، الضغوط النفسية القاسية، فهم ربما في أعين الناس في الشام وقبلها في الكوفة، سبايا حرب، كما هي العادة عند العرب بعد نهاية كل معركة، ولكن؛ في قرارة أنفس أهل البيت، عليهم السلام، إنهم اصحاب رسالة ومهمة حضارية لبناء الانسان والمجتمع، وليس لإظهار الجزع والتبرم، ثم الرد على الناس بعنف وتهديدهم بأنهم سيكونوا في جهنم يوم القيامة نكالاً لما يفعلون بهم!
القرآن الكريم محور ثقافة أهل البيت، عليهم السلام
يوصينا أئمتنا الاطهار أن نعرض احاديثهم الشريفة ـ في حالة الشك – على القرآن الكريم “إن وافقها فخذوه وإلا فاضربوا بها عرض الحائط”، فكانت الأحكام والأخلاق والآداب، وكل صغيرة وكبيرة يستقونها من كتاب الله الكريم، الى جانب سيرة جدّهم المصطفى، صلى الله عليه وآله، حتى إنهم كانوا ينطلقون من القرآن الكريم لمحاججة الملاحدة والزنادقة واصحاب الفرق الكلامية والمذاهب العقلية، وكل ما حاول ـ وما يزال – لصياغة توجه فكري وعقدي جديد من بناة افكاره وتصوراته الخاصة.
ولمن يتابع خطب وكلمات الامام الحسين، عليه السلام، يوم عاشوراء يجدها مطعمة بالآيات الكريمة: “وإنْ لَم تقبلوا مِنّي العُذر ولَم تعطوا النّصف من أنفسكم، {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ}، (سورة يونس، الآية71)، {إِنَّ وَلِيِّي اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ}، (سورة الأعراف، الآية196)، وفي مقطع آخر يقول، عليه السلام: “لقد استحوذ عليكم الشيطان فأنساكم ذكر الله العظيم، فتبّاً لكم ولِما تريدون. إنّا لله وإنّا إليه راجعون. هؤلاء {قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ}، (سورة آل عمران، الآية86)، {فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}“، (سورة هود، الآية44).
لقد طلب الإمام الحسين، عليه السلام، من جيش ابن سعد أن يمثله ليلة عاشوراء ليصلّي ويدعو الله ـ تعالى- ويقرأ القرآن الكريم، وقال: “إني أحب قراءة القرآن الكريم”.
إن نور القرآن الكريم، ونفحاته الايمانية العميقة هي التي جعلت قلب الإمام الحسين أصلب من الحجر والحديد، وجعله لا ينظر الى بعين الله ـ تعالى- فهو صائر إليه عما قريب، فلن تكون الحياة وما فيها من ملذات وجذابيات، من مال وبنين ومناصب وامتيازات إلا منطلقاً نحو الآخرة التي هي دار القرار، فكلما كان المنطلق رصيناً، صلباً، كان السمو والنجاة في الآخرة أضمن.
فمن يجعل القرآن الكريم مدرسته في التربية والسلوك والتفكير لن يقع في أخطاء كارثية تلحق به الضرر وبمن حوله، وأكثر من هذا يكون مصدر إلهام للأخلاق والخير والهداية للآخرين، كما كان الامام زين العابدين، عليه السلام، الذي كان ينظر الى ذلك الشيخ الشامي والمتشمّت على أنه فرصة ممكنة للهداية والتغيير، وليس عدواً ينبغي الوقوف بوجهه بقوة وتعنيفه كلامياً، إن لم يستطع بدنياً كما يفعل الكثير.
العبرة المهمة والكبيرة في هذه الحادثة أنها اثبتت لنا وللأجيال أن لا حتمية في أحوال الشعوب والأمم، فمن الممكن أن يخرج من شعب جبان رجل شجاع، او من شعب مضلل، رجل يبحث عن نور الوعي والهداية، مثل ذلك الشيخ الذي حباه الإمام السجّاد بوسام؛ “وأنت معنا”، بعد أن تاب الى يد الإمام، عليه السلام، بمعنى أنه اصبح من المؤمنين الموالين، وموته على يد يزيد، هي موتة الشهيد في سبيل الله، ولا أثر لخلفيته السابقة وما فعل في حياته، فالعبرة بالخواتيم.