عندما قرر الإمام الحسين عليه السلام أن يترك المدينة ويهاجر استخار الله في أمره، حيث أتى قبر جده رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وصلى عنده ركعتين ثم أخذ يدعو ويناجي الله ويبكي، إلى ان أخذته غفوة، فإذا به يرى رسول الله قد أقبل في كتيبة من الملائكة عن يمينه وشماله وبين يديه، فجاء حتى ضم الحسين إلى صدره وقبل بين عينيه وقال له: “يا بني، كأني أراك عن قريب مرملاً بدمائك، مذبوحاً بأرض كرب وبلاء، بين عصابة من أمتي، وأنت في ذلك عطشان لا تسقى، وظمآن لا تروى، وهم في ذلك يبغون شفاعتي، ما لهم، لا أنالهم الله شفاعتي يوم القيامة.
ثم قال : حبيبي يا حسين إن أباك وامك واخاك قد قدموا عليَّ وهم إليك مشتاقون.
فقال الحسين: يا جداه لا حاجة لي في الرجوع إلى الدنيا، فخذني إليك واجعلني معك في منزلك.
فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إن لك في الجنة درجات لا تنالها إلا بالشهادة، وما كتب الله لك من الثواب العظيم، فإنك وأباك وأخاك وعمك وعم أبيك تحشرون في زمرة واحدة حتى تدخلوا الجنة.”
في هذا الموقف يبعث لنا الإمام الحسين، عليه السلام، رسالة ويعطي لنا درساً في الوصول إلى أعلى مراتب التسليم والتضحية والفداء، كيف أنه ـ صلوات الله عليه ـ يُخبر من قبل جده بأنه سوف يقتل ولكنه لا يتراجع بل يزداد عزماً واصراراً، لأن ذلك أمراً من الله، ويمضي بكل اشتياق ولهفة لتطبيق مايريده الله، حتى ولو انه يقتل عطشاناً، ظمآناً.
فما دام الأمر من الله لابد من التسليم {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ}، لقد وصل الحسين، عليه السلام، إلى أعلى مراتب التضحية والتسليم لله فقد فاق إبراهيم وإسماعيل في التسليم، والتضحية ،والفداء، إذ أنه إبراهيم لم يذبح ولده ولم يرى دمه، أما الحسين فقد ذُبِح ولده على حجره، وشاهد أولاده، وأهل بيته مقطعين إربا إربا أمامه، وهو عما قليل سيقطع مثلهم، ويلتحق بهم ولكنه ذاكرا لله، مرددا : “رضا برضاك لا معبود سواك”و “اللهم ان كان هذا يرضيك فخذ حتى ترضى” و “هون ما نزل بي ما دام بعين الله” .
يبعث لنا الإمام الحسين رسالة: أن يا أيها المؤمن الحسيني الرسالي لابد أن تكون مستعداً للتضحية في سبيل الله، واثقاً بتدبيره، مسلماً أمرك له، خاضعاً لارادته ومشيئته، راضياً بتقديره
كما أنه كان يعلم بما سيؤول إليه مصير نسائه وأهل بيته من السبي، ولكنه في غاية التسليم لمشيئة الله، فعندما اعترضه أخوه محمد بن الحنفية وقال له لماذا انت تارك مدينة جدك رسول الله؟
أجابه: “شاء الله أن يراني قتيلاً”!
وعندما قال له إذاً لماذا تأخذ معك نسائك وأهل بيتك؟
قال: “شاء الله أن يراهن سبايا”.
فهكذا هو من وصل إلى أعلى مراتب اليقين والمعرفة لابد له من التسليم المطلق لإرادة الله ومشيئته.
وهنا الإمام، عليه السلام، يبعث لنا رسالة: أن يا أيها المؤمن الحسيني الرسالي لابد أن تكون مستعداً للتضحية في سبيل الله، واثقاً بتدبيره، مسلماً أمرك له، خاضعاً لارادته ومشيئته، راضياً بتقديره.
كما أراد الإمام الحسين، عليه السلام، أن يبين لنا فضل الشهادة ويحثنا عليها، ويفتح لنا الباب لسلوك هذا الطريق، طريق الشهادة، حيث أنها أقوى سلاح يمتلكه المجاهدون المؤمنون بوجه الطغاة المتجبرين، فهي السلاح الذي لا ينكسر، ولا يبلى ولا ينتهي على مر التاريخ،
إنّ الشهادة هي التي ترفع من درجات المؤمنين وتبلغ بهم إلى الوصول إلى رضوان الله ونيل عظيم الدرجات عنده، لأن ما عند الله عظيم فلابد من التضحية ودفع الثمن للوصول إليه، وأسرع الطرق لنيل الثواب الجزيل والثناء الجميل والحصول على رضا الرب، والتمتع بالدرجات العلى في جنته هو الشهادة.
و تعد الشهادة خير دليل على صدق الإيمان واليقين، فمن يصل إلى درجة أن يقدم نفسه شهيداً مضحيا في سبيل الله إلا من وصل إلى الإيمان الخالص واليقين الصادق.