يقول الإمام الصادق، عليه السلام: “الجهل صورة ركبت في بني آدم، إقبالها ظلمة، وإدبارها نور، والعبد متقلب معها كتقلب الظل مع الشمس ألا ترى إلى الانسان تارة تجده جاهلا بخصال نفسه، حامدا لها، عارفا بعيبها في غيره ساخطا، وتارة تجده عالما بطباعه، ساخطا لها، حامدا لها في غيره”.
في هذه الرواية يعرّف الإمام، سلام الله عليه، الإنسان نفسه وحقيقتها وهواجسها، لأن معرفة النفس هي الأساس، والخطوة الأولى لكل معرفة، والجاهل بنفسه لا يستطيع أن يكتسب معرفةً تُصلحه.
في البدء يبيّن الإمام الصادق، عليه السلام، أن الجهل متأصل في بني آدم، وحين يسيطر الجهل والهوى على الإنسان، سيكون هناك ظلمة تحجبه عن رؤية الحقائق والمعقولات، وحين يُدبر الجهل ويحلّ محله العلم والعقل، سيرى بمقدار ذلك العقل حقائق الحياة ويبصرها.
من الأمور الخطيرة ان يجهل الانسان غرور نفسه، وجهلها، وضعفها، وعلاوة على ذلك يكون حامدا لتلك الصفات الرذيلة
“والعبد متقلب معها كتقلب الظل مع الشمس”، تارة يزداد الإنسان جهلا، وتارة أخرى تعقلا، ولذا لو راجع الإنسان نفسه، فإنه يلحظ بعض الفترات أن عنده معنويات عالية، استعداد لفعل الخير، وقبول الحق.
وفترات أخرى تكون بالنقيض من ذلك، يجد نوعا من التململ، والعزوف، قَالَ أميرُ المؤمنين علي، عليه السَّلام: “إِنَّ لِلْقُلُوبِ إِقْبَالًا وَ إِدْبَاراً فَإِذَا أَقْبَلَتْ فَاحْمِلُوهَا عَلَى النَّوَافِلِ وَ إِذَا أَدْبَرَتْ فَاقْتَصِرُوا بِهَا عَلَى الْفَرَائِضِ”، فالنفس تارة تقبل، وأخرى تدبر، فإقبالها زيادة في نورالعقل، وفي هذه الحالة يكون العقل غالب للهوى، وهذه فرصة للمرء أن ينمي نفسه ويرتقي بها، وعندما يكون للنفس إدبار، فإن تحميلها أكثر من طاقتها ينفّرها، والرواية تقول بالحفاظ والاقتصار على الواجبات، وهنا لابد من الحذر أن يكون التململ في ترك الواجبات.
فنفوسنا لن تكون على مسار واحد، حتى لو كانت في حالة تقدم، فهي كالظل؛ فيوم يزداد الظل على الضوء، والعكس كذلك، ولا يعني إدبار النفس ان يكون هناك ارتكاب معصية، ففي حالة الإقبال تكون: صلاة الفرائض والنوافل، وقراءة القرآن الكريم، وقراءة دعاء معين، وغيرها من الأعمال الصالحة، وهذه حالة تقدم، ولكن في حالة الإدبار تؤدى تلك الأعمال لكن بصورة أقل؛ ـ فمثلا ـ يأتي يوم لا يقرأ فيه القرآن الكريم، أو أنه لم يصلِ النافلة، وهكذا في بقية الأمور.
نحن بحاجة الى استحضار معيبنا ـ لا جلد الذات ـ وإنما محاسبة النفس لاصلاحها، فالبعض يرى في نفسه معايب لكنه لا يصلحها، فتصبح لديه حالة من الإحباط
لكن على المؤمن أن لا يغفل، يقول الإمام الكاظم، عليه السلام: “من استوى يوماه فهو مغبون، ومن كان آخر يوميه شرهما فهو ملعون، ومن لم يعرف الزيادة في نفسه فهو في نقصان، ومن كان إلى النقصان فالموت خير له من الحياة”، وإذا نقص فليس ذلك غبنا، وإنما هو خروج جزء من الرحمة؛ أي يكون ملعونا، ولذا لابد أن نتعود على التقدم الدائم، ـ فمثلاً ـ اليوم نقرأ القرآن الكريم، وغداً نتدبر في آياته العظيمة، ومن التقدم ـ أيضا ـ ان نطبق ما تدبرناه وبهذا يكون هناك تقدم أكثر فأكثر.
“ألا ترى إلى الانسان تارة تجده جاهلا بخصال نفسه حامدا لها “أحيانا تكون رؤية الإنسان لنفسه ولمن حوله صائبة وسليّمة، تنبع من بصيرة حقيقيّة، وأحيانا ـ تنبع ـ من التواضع للحق، وقد تكون رؤية المرء الى نفسه ولما بغرور، وبالتالي يؤدي الى دمار النفس، “اعجاب المرء بنفسه مهلكة له”.
“حامدا لها” فمن الأمور الخطيرة ان يجهل الانسان غرور نفسه، وجهلها، وضعفها، وعلاوة على ذلك يكون حامدا لتلك الصفات الرذيلة.
“عارفا بعيبها في غيره ساخطا” ينظر الى مساؤى الآخرين وسلبياتهم، فيمقت هذا، ويزدري ذاك؛ من قبيل: هذا فقير لأنه لا يملك الاموال! لا يعرف أن بذاته فقير العلم، والدِين، يقول الإمام علي، عليه السلام: “طوبى لمن شغلته عيوبه عن عيوب الناس”، لذلك: المؤمن مرآة المؤمن”، فإذا نظر في عيب أحدهم، فإن يبحث عن ذلك العيب في نفسه، وحين يقدم على فعل الخير، يكون ذلك حافزا لغيره، فيستاءل: إذا كان اخي المؤمن قام بعمل خير، فلماذا لا أقوم بعمل مشابه له؟
“وتارة تجده عالماً بطباعه ساخطا لها حامدا لها في غيره”، تجده أحيانا ملولا، لا يستطيع حتى قراءة صفحة واحدة من القرآن الكريم! أو ان يستمع لمحاضرة لعدة دقائق، مع معرفته انه كسول، او غضوب، وما اشبه، وقد تراه يمدح خصال الخير عند الآخرين، لكنه غير مستعد لتوفيرها في نفسه.
ولذا نحن بحاجة الى استحضار معيبنا ـ لا جلد الذات ـ وإنما محاسبة النفس لاصلاحها، فالبعض يرى في نفسه معايب لكنه لا يصلحها، فتصبح لديه حالة من الإحباط، وهذا لا يعني أن نغمض أعيننا عن معايب الآخرين العابثين، بكعس المؤمن الذي يجب أن نخلق له عذرا لعيبه.
إنّ حياة الإنسان تكون ـ عادة ـ بين الصعود والنزول، صعودا الى الخير وهبوط منه، وهنا لابد المؤمن أن يلتفت لنفسه ويراقبها، حتى لا يكون سقوطه يؤدي الى الغفلة، وبالتالي الى الانحدار، لذلك متى ما أحسّ بهبوط ما فإن عليه الرجوع.