ثقافة رسالية

العقل هو الدين (9) هل للنيّة الخالصة دور في مراحل التكامل؟

قال الرسول الأعظم، صلى الله عليه وآله: “ما قسم الله للعباد شيئا أفضل من العقل، فنوم العاقل أفضل من سهر الجاهل، وإقامة العاقل أفضل من شخوص الجاهل، ولا بعث الله نبيا ولا رسولا حتى يستكمل العقل، ويكون عقله أفضل من جميع عقول أمته، وما يضمر النبي، صلى الله عليه وآله، في نفسه أفضل من اجتهاد المجتهدين، وما أدى العبد فرائض الله حتى عقل عنه، ولا بلغ جميع العابدين في فضل عبادتهم ما بلغ العاقل، والعقلاء هم أولو الألباب، الذين قال الله تعالى: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ}.

في هذا المقطع يبين عظمة ومكانة، وأهمية العقل، حيث لا يوجد شيء في هذا الوجود أفضل من العقل، فلا الجاه، ولا المال، ولا السلطان، ولا أي شيء آخر، لأنه افضل ما اعطى الله ـ تعالى ـ لعباده، وبقدر ما يعقل الإنسان يجازى.

وهذه الرواية تؤكد على أن نوم العاقل أفضل من سهر الجاهل، لأن العاقل ينام لكي يجمع قواه للعمل على مرضاة الله، ولو تمكن من الاستيقاظ لما نام، واستثمر ذلك الوقت لمرضاة الله، على عكس الجاهل، فجلوسه مضيعة لوقته، واعتداء على الآخرين وما شابه.

الانبياء والأئمة و درجات تكامل العقل

“ولا بعث الله نبيا ولا رسولا حتى يستكمل العقل”، فالله ـ تعالى ـ لا يجعل النبي نبياً، ولا يجعل الإمام إماماً حتى يكون كامل العقل، فالأنبياء والائمة بلغوا درجة كمال العقل؛ أي العصمة، وعدم الخطأ، لأن الخطأ نتاج الجهل والهوى، فمن كمُل عقله هيّمن على نفسه، وغلب هواه، وبالتالي القيادة الداخلية للعقل الذي لا يخطئ.

العقل لا يخسر الأشياء المحسوسة، بل هو يهيّمن عليها، وهو ـ العقل ـ لا يرى تلك المحسوسات ذات قيمة، فالدنيا لا قيمة لها عنده

والأنبياء يتفاوتون في الكمال، فهناك من هو أكمل من الآخر، لكنه يبلغ درجة الكمال، وكلما ازداد الإنسان عقلا كلما اقترب من الصواب، وابتعد من الخطأ، لذلك حينما يرسل الله نبيا او رسولا ، يجعل هذه القيادة طاهرة ونقية، قادرة على الاجابة الى ما يحتاجه الناس، ولذا فالأنبياء والأئمة أفضل خلق الله ـ تعالى ـ وهذه الأفضلية بالعقل الذي وهبهم الله إياه، ولأنهم أهلٌ لذلك أعطاهم الله.

وهذه الأفضلية بعد ان علم الله أنهم يعقلون، ويستحقون كمال العقل، وبقدر ما يسعى الإنسان لإصلاح ذاته، وتنمية عقله، يعطيه الله العقل، والمرء الذي يحصل على العقل يحصل على كل شيء.

فهناك محسوسات ومعقولات، والمعقولات تهيمن على المحسوسات، يقول الله ـ تعالى ـ: {قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ}، والأمور العقلية حينما تبلغ درجة من الكمال تهيمن على المحسوس، يقول الحديث القدسي: “عبدي اطعني تكن مثلي اقل للشيء كن فيكون وتقول للشيء كن فيكون”.

والعقل لا يخسر الأشياء المحسوسة، بل هو يهيّمن عليها، وهو ـ العقل ـ لا يرى تلك المحسوسات ذات قيمة، فالدنيا لا قيمة لها عنده، ذلك أن العقل يبصر الإنسان حقيقة الدنيا، ويعرف أنها لا شيء وهي عبارة عن متاع قليل، ولذا تراه يبحث عن شيء كبير يقربه من الله.

“ويكون عقله أفضل من جميع عقول أمته”، فعقل النبي، أو الإمام، أفضل من عقول جميع الأمة، فهو في كفة وبقيّة الامة في الكفة الأخرى، فبعقله يقدّم ويفضل بالقرب الإلهي، ولا شيء أفضل من القرب من الله ـ تعالى ـ، لذلك منزلة الإنسان يوم القيامة على حسب قربه من الله ـ تعالى ـ، “لذلك حسنات الابرار سيئات المقربين”، فمن يقترب من الله أعلى من الابرار.

قال الإمام الكاظم، عليه السلام يا هشام : “قليل العمل من العاقل مقبول مضاعف، وكثير العمل من أهل الهوى والجهل مردود”

“وما يضمر النبي (صلى الله عليه وآله) في نفسه أفضل من اجتهاد المجتهدين”، فالنبي نيته خالصة لله، وعنده تسليم مطلق لله ـ تعالى ـ، فهناك من يتصدق بدينار خالص، وهناك من ينفق الملايين رياءً حتى يقول الناس: فلان اعطى! وهناك من لا يمتلك الأموال لكنه يضمر في نفسه أن لو اعطاه الله لانفقه بنية خالصة، لأن الأمور على النيّة” وعلى نياتكم ترزقون”، يقول الإمام زين العابدين، عليه السلام، في دعاء مكارم الأخلاق: “اللهم بلغ بإيماني أكمل الإيمان واجعل يقيني أفضل اليقين وانتهِ بنيتي الى أحسن النيات”، وهذا تعبير عن الطموح العالي: أفضل اليقين؛ وأحسن النيات.

النيّة لا العمل هي المعيار

فالله ـ تعالى ـ لا يعطي على مقدار العمل، وهذه ليس من الموازين الإلهية، وإنما هي معياريّة وضعها البشر، فإذا قمت بتشغيل أحدهم في عمل ما، فإنك تعطيه أموال بمقدار الساعات التي اشتغل فيها، لكنّ الله ـ تعالى ـ يحاسب على قدر نيّة الإنسان، وأعلى من ذلك؛ أنه لو نوى أحدهم القيام بعمل ما لكنه لا يقدر عليه ـ ولو تمكّن لعمل ـ فإن الله يعطيه ثوابا على نيته تلك، ولذا علينا أن نصفّي نياتنا، وذلك يكون بالعقل، قال الإمام الكاظم، عليه السلام يا هشام : “قليل العمل من العاقل مقبول مضاعف، وكثير العمل من أهل الهوى والجهل مردود”.

“وما أدى العبد فرائض الله حتى عقل عنه”، لأن العاقل لا يؤدي العمل حتى يعقل عن الله، بمعنى أن هذا العمل أمر الله ـ سبحانه وتعالى ـ، ويعلم أن الله أراد ذلك منه، ولهذا نرى البعض يعمل لأجل الناس، لا لأن الله أمر به! فقد تجد خطيبا لا يعتلي المنبر لوجود عدد قليل من الناس!

“ولا بلغ جميع العابدين في فضل عبادتهم ما بلغ العاقل”، فعاقل واحد أفضل من مجموعة عابدين غير عاقلين، فقد يصلي أحدهم ركعتين بعقل؛ تكون افضل من آخر يعبد الله سبعين سنة بعقل ضعيف، “تفكر ساعة أفضل من عبادة سبعين سنة، فقد نعمل لسنوات كثيرة، ثم نأتي يوم القيامة وثوابنا ـ مقارنة بالآخرين ـ قليل جدا، “ضربة علي يوم الخندق تعادل عبادة الثقلين”. لأنها بلغت كمال الخلوص لله.

عن المؤلف

آية الله الشهيد المجاهد الشيخ نمر باقر النمر

اترك تعليقا