لم تكن بيعة الغدير و أمر الله ـ تعالى- لنبيه، صلى الله عليه وآله، بالتبليغ عن تنصيب أمير المؤمنين، عليه السلام، حدثاً عابرا، بل كان حدثاً عظيماً لكل ما للكلمة من معنى، إذ جعل –تعالى- هذا التبليغ يساوي تبليغ الرسالة باجمعها، وبدون هذا التبليغ فإن الرسالة لم تُبَلَّغ، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}، (سورة المائدة، 67).
إن قرن الامر بالتبليغ بهذا الشكل إنما يبين اهمية هذا التنصيب في واقع الكون والخلقة، بل وفي تحقيق هدف الخلقة وغايتها، وهكذا فإن بيعة الغدير اسست لمشروع دائم ومستمر في حركة الخليقة وسيرها حتى قيام الساعة، وما دام الامر بهذه الخطورة، وهذه الاهمية فما هي الاسباب التي جعلت الامة تعصي أمر السماء؟! وتدخل نفسها في هذا التيه من ذلك اليوم وحتى يومنا هذا؟! فولّت عليها شرارها و ابعدت خيارها! وللأسف، فإن هذا المنهج في تولية الاشرار، واستبعاد الاخيار، لايزال سائدا حتى يومنا هذا.
من اعظم المسؤوليات للطبقة الواعية في الامة هو غرس الوعي في نفوس الامة، فوعي الامة يمثل خندقها وحصنها المنيع بوجه الطغاة الانتهازيين
واعتقد ان السبب كان ولازال – وبغض النظر عن العوامل الاخرى الدخيلة – هو تلك المعادلة التي كانت، ومازالت تتفاعل والى يومنا هذا، بين عناصر ثلاث:
أولها: الانتهازيون الخائنون.
وثانيها :الطبقة الواعية غير المسؤولة.
وثالثها: الاغلبية غير الواعية.
الانتهازيون الخائنون
ابتُليت البشرية وعلى مر تاريخها بطبقة الانتهازيين الخائنين لمبادئ الدين والانسانية والاعراف، ولم تكن الامة الاسلامية بمنأى عن هذه الحالة، بل كانت اكثر الامم ضرراً منها على الاطلاق، ولعل ما حلّ ويحلّ بأمتنا ما هو إلا سبباً لها، وهي أس واساس هذا الخراب، والفاعل المؤثر فيه، ولولاها لكان امر السماء يوم الغدير قد أٌمتُثِل، فكم يتعجب الانسان ان يمنع عمر بن الخطاب، رسول الله، صلى الله عليه وآله، من تأكيد امر السماء يوم غدير خم كتابةً! ومن ثم يسوس امر السقيفة فيولي ابا بكر الامر! وكم هو عجيب ان تقود امرأة كعائشة، الجيوش لقتال المُنَصَّب من السماء في حرب الجمل! والكلام يطول عن مثل هكذا خيانات على امتداد تاريخ الامة والى اليوم، من قبل الانتهازيين الوصوليين.
وقد حدثنا القرآن عن سببين للخيانة: أولها، الاستكبار والطغيان، كما في استكبار ابليس، إذ قال تعالى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْماً عَالِينَ * فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ}، (المؤمنون، 45-47)، وقد ظهر جليا أن الاستكبار والطغيان كانا متجذرين في نفوس عدد غير قليل من كبار العرب الاوائل الذين دخلوا الاسلام، حتى أن أهم اسباب رفضهم للاسلام كان رفضهم لمساواتهم بغيرهم من الناس، فلم تتقبله نفسياتهم المتكبرة.
وهناك جذر آخر للخيانة، والانقلاب على العقب، ألا وهو الشعور بالمهانة والنقص مقابل الآخر، وقد كان هذا اهم أسباب خيانات اليهود ونقضهم لعهودهم مع المسلمين، لذلك ترى ان من ابرز صفاتهم، الجبن والغدر، وهما أهم مظاهر الشعور بالذلة والاحتقار، وهذا الشعور تعزز لدى عدد غير قليل من الذين اسلموا، ولما يدخل الايمان في قلوبهم.
وعندما يتفاعل عاملا الاستكبار والشعور بالاحتقار مع النفاق في نفوس هذه الفئة، فإنها ستكون مدمرة دون شك، حيث سيكون من الصعب اكتشافها، فهي تتظاهر بالتديّن تارة، وبالوطنية تارة اخرى، وبشرف المهنة ثالثة، وهي أبعد ما تكون عن ذلك كله، فتكون ضرباتها للامة قاسية، حيث انها تختار المكان والزمان المناسبين وتغرس خنجر الغدر في قلب الامة، وهذا ما حدث يوم شهادة رسول الرحمة، صلى الله عليه وآله، ومازال يحدث الى يومنا هذا، حيث لا تكاد تخلوا دولنا الاسلامية من طبقة الانتهازيين المسيطرين على مقاليد الامور دائما، وهي تتميز بهذا الثلاثي الخطير: الاستكبار، وعقدة الاحتقار الذاتي، المؤطرتان بالنفاق.
طبقة واعية لا مسؤولة
أما العنصر الثاني في هذه المعادلة الذي يقابل طبقة الانتهازيين المنافقين الخائنين، فهم الطبقة التي تعي حقيقة الامور وخطورتها، وتقسّم هذه الطبقة قديما وحديثا الى قسمين: مسؤولة، واخرى غير مسؤولة.
ومع شديد الاسف، فإن عدد المسؤولة منها، يوم شهادة رسول الرحمة، صلى الله عليه وآله، لم تصل عدد اصابع اليد، وهذا العدد الضئيل لا يمكن ان يكون ذو تأثير مقابل عدد الانتهازيين الكبير، واستمر وجود هذه الثلّة القليلة والمؤمنة مع مسيرة الاجيال، وحتى اليوم، وعليه فإن تحمل طبقة المثقفين لمسؤولياتها مع ما تمتلكه من وعي ومعرفة هو أُس و اساس حركة التصحيح، وان أي من الطبقتين كانت اكثر فاعلية استطاعت قيادة الاكثرية غير الواعية نحو تحقيق اهداف طبقتها، ومن المؤسف القول ان فئة الانتهازيين هي السائدة منذ ذلك الزمان الى يومنا هذا، وما ذلك إلا بسبب تخلّي فئة المثقفين من مسؤولياتها، وتفريغ الساحة للانتهازيين، ليعيثوا في الارض فسادا، بل وليغرسوا الانحراف والفساد في فكر وثقافة الاكثرية غير الواعية، فالوعي اساس المسؤولية والمسؤولية انما هي فرع الوعي، والنخب الواعية هي المسؤولة اليوم امام الله تعالى، وامام شعوبها بتحمل مسؤولياته ا وبث الوعي وروح المسؤولية في نفوس الجماهير.
اكثرية غير واعية
وهم العنصر الثالث في هذه المعادلة، وبسبب الواقع المزري الذي مرت به الجزيرة العربية قبيل ظهور الاسلام من تخلف وانحطاط شامل، جعلت من تواجد رسول الرحمة بينهم لعقدين من الزمن، مبلغاً رسالة السماء، غير كافٍ لزرع الوعي في الشريحة الكبرى من الامة، فكان التعويل على الغدير لإكمال مسيرة التوعية، ولهذا لم تكن الغالبية العظمى تعي خطورة ما جرى بإبعاد الخلافة الربانية عن موقعها.
ولذا فإن مسيرة التوعية قد تعثرت، واستمرت هذه الحالة والى عصرنا الراهن، وبسبب حالة عدم الوعي هذه، فإن طاقة هذه الاغلبية يتم توجيهها من قبل الفاعلين، فإن كان الفاعل انتهازيا، فإنها تحقق هدفه، وان كان واعياً، حققت هدفه ايضاً، ولما كان الانتهازيون هم الفاعلون على مر تاريخ، فإن الامة كانت ولا زالت أداة لتحقيق اهدافهم على حسابها كأُمة.
وهكذا كنا نرى واقع الامة قد يتقدم بعض خطوات حيناً، وقد يترنح حيناً آخر، وما ذلك إلا كنتيجة لتفاعل هذه العناصر الثلاث، فكلما زاد تحمل الطبقة الواعية لمسؤوليتها، وجدنا التقدم، وكلما تراجعت، تراجعت الامة معها.
خطوات على طريق الحل
الخطوة الاولى: تحمل الطبقة الواعية لمسؤولياتها
كما ان للانسان مسؤولية فردية، فإنه ولاشك يتحمل مسؤولية اجتماعية جسيمة، وبدونها تستحيل الحياة الى فوضى، وفي حقيقة الامر فإن المسؤولية الاجتماعية هي فرع المسؤولية الفردية وامتداد لها، ولا يمكن تصورها منفصلة عنها بأي شكل من الاشكال، ومن ترك القيام بمسؤوليته الاجتماعية يوم انقلاب طبقة الانتهازيين على اعقابها بعد شهادة الرسول، صلى الله عليه وآله، فإنه ولا شك تخلّى عن مسؤوليته الفردية تجاه نفسه ايضا، وانه سيتحمل وزرها على المستويين الاجتماعي والفردي.
فالفرد مسؤول عن مقاومة الفساد بكل انواعه ساسياً كان، أم اجتماعياً، أم اخلاقياً، أم اقتصادياً، أم عقائدياً، ولعل في حديث رسول الرحمة، صلى الله عليه وآله، خير ما يبين لنا ان المسؤولية الاجتماعية لابد منها للانسان، إن اراد صلاح حياته إذ قال، صلى الله عليه وآله: “مثل القائم في حدود اللَّه و الواقع فيها كمثل قوم استهمّوا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها و بعضهم أسفلها فكان الّذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مرّوا على من فوقهم فقالوا لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا و لم نؤذ من فوقنا فإن هم تركوهم و ما أرادوا هلكوا جميعا و إن أخذوا على أيديهم نجوا جميعا”(1).
فماهي المسؤولية الاهم التي ينبغي ان تقوم بها الطبقة المثقفة في ظل الظروف الراهنة، وهي تتمثل بالمؤسسة الدينية، والمنظمات والفعاليات الثقافية وعامة المثقفين من كتاب و أدباء ومفكرين، متخذين الاعلام وسيلتهم في هذه المسؤولية المقدسة؟
ان الوعي، وتحمل المسؤولية هما من يصنعان الواقع، وان الوعي هو قاعدة تحمل المسؤولية، والباعث نحوها، ولذا فإن توعية الامة، وبث روح المسؤولية في روعها اهم مسؤوليات الطبقة الواعية اليوم.
- بث الوعي في نفوس الجماهير:
وهكذا فما دام الوعي والمسؤولية هما من يصنعان الواقع، وان اساس المسؤولية وقاعدتها هو الوعي، وان المسؤولية انما تتفرع على الوعي وتستقي طاقتها منه، فإن من اعظم المسؤوليات للطبقة الواعية في الامة هو غرس الوعي في نفوس الامة، فوعي الامة يمثل خندقها وحصنها المنيع بوجه الطغاة الانتهازيين.
لقد كان بث الوعي في نفوس الامة، الهدف الاسمى لرسالات السماء، و افضل سبل المصلحين في تحصين الامة، فقد يفرض المستكبرون بالقوة واقعا فاسدا، ويعتقدوا واهمين انهم انتصروا، ولكن حقيقة النصر والهزيمة إنما هما بنصر او هزيمة النفوس، ومادامت النفوس واعية وبمسؤوليتها قائمة، فإن هزيمتها مستحيلة.
عندما تتفاعل عوامل، الاستكبار والشعور بالاحتقار مع النفاق في نفوس الانتهازيين، فإن من الصعب اكتشافها، فهي تتظاهر بالتديّن تارة، وبالوطنية تارة اخرى، وبشرف المهنة ثالثة، فتكون ضرباتها للامة قاسية وغادرة
ولعل اهم وسائل بث الوعي في نفوس الامة، هو الاهتمام ببصائر الوحي المتمثلة بالقرآن والسنة، قراءةً وتدبرا، ولعل في وصية أمير المؤمنين، عليه السلام، لأصحابه ما يؤكد ذلك حيث يقول، عليه السلام: “اعلموا أنّ القرآن هدى اللّيل والنهار، ونور اللّيل المظلم”، فالقرآن المجيد هو كتاب مسؤولية، وكتاب وعي و كتاب عقل وحكمة يضيئ الدرب أمام الإنسان ليفتح عقله حيال الحقائق الكبرى لكي لا تسيطر عليه الغفلة والضلال والعمى”، فلا غنى لنا عن التدبر في بصائر الوحي، اذا ما اردنا ان نغرس الوعي الحقيقي في نفوسنا.
- غرس روح المسؤولية الاجتماعية
لعل اكبر مشاكل ابناء الامة اليوم بعد غياب الوعي، هو هروبهم من تحمل مسؤولياتهم تجاه قضايا الامة المصيرية، ومنها مسؤوليتهم تجاه بيعة الغدير الخالدة، وشكلت هذه المشكلة، قاسما مشتركا بين الطبقة الواعية والاغلبية غير الواعية.
وبدلاً من أن نتحمل المسؤوليات الجسام، صرنا نبرع في سوق التبريرات لتقاعسنا وتكاسلنا عن اداء مسؤولياتنا تارة، وتحميلها للاخرين تارة اخرى، في حين اننا نرى ان اول خطوات التقدم والرقي التي خطتها الامم الناهضة بعد الوعي هو تحملها المسؤولية الاجتماعية.
ولهذا فإن غرس روح المسؤولية في الامة، من أهم وسائل النهضة وتصحيح المسار، و أهم مسؤوليات الطبقة الواعية كضرورة للامة، لتحقيق مصلحتها الانية في هذا الزمان، وكضرورة يتطلبها مشروع الغدير الحضاري في قادم الايام.
الخطوة الثانية: المسؤولية التضامنية
والخطوة الثانية المكملة لاصلاح الواقع، هو ان تتحمل الجماهير مسؤولياتها ايضا، فكما ان على الطبقة الواعية مسؤوليتها، فإن على عامة الامة مسؤوليتها ايضا، فكلٌ يتحمل مسؤوليته بقدر، ولذلك فإن الله تعالى جعل تغير واقع الشعوب مرتبطاً بتغير واقعهم الذاتي، قال تعالى: {…إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ}، (سورة الرعد،11).
وفي قوله تعالى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ}، (سورة الاعراف، 6)، دلالة واضحة على ان المسؤولية مشتركة بين الجميع، سواءً كانوا انبياء و أوصياء وعلماء ومثقفين وعامة الناس، فكلٌ بقدر، ولا يستثنى منها احد، وهذا ما اكده قوله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ}، (سورة الحجر، 92).
فلا احد بلا مسؤولية في هذه الدنيا، ولن يُستثنى احد من المحاسبة على مسؤولياته، ولعل القسم بالمسائلة يوضح لنا اهمية المسؤولية عند الله تعالى، وبالتالي اهميتها بل وضرورتها في اصلاح واقع الخليقة.
مسؤوليتنا تجاه الغدير
وهكذا، فمادام لواقعة الغدير هذه الخطورة في الحركة التكاملية للبشر والخليقة، ومادام كل هذا الانحراف والشتات الذي اصاب الامة انما هو بسبب التخلي عنها، فما هي مسؤوليتنا تجاهها؟!
ولعمري انني لا اجد اننا اعطيناها من الاهتمام ما تستحق، ولا حتى واحداً بالمليار، فأين حوزاتنا عنها، وعن توعية الناس بها؟ و أين اعلامنا منها؟ ولعل اهتمام اعلام المسلمين يهتم بعيد الحب في عام واحد بمقدار ما اعطاه لبيعة الغدير في كل تاريخها من اهتمام! ثم أين مراكز البحث ودورها في دراسة الغدير كمشروع حضاري يتكامل فيه البعد التشريعي والحضاري تكاملية تنتج للبشرية منهجا للتكامل والسعادة الابدية؟ وأين…؟ و أين…؟ و أين…؟!
——————
- الهلالي، سليم بن قيس، كتاب سليم بن قيس الهلالي، ج2- طبعة ايران 1405.