نوعين معروفين من الاحتراق يصيبا الانسان؛ الاول: في جسده؛ صغيراً كان موضع الحرق أم كبيراً، والثاني: في قلبه عندما يجد يتيماً نفسه وحيداً أمام جنازة أبيه، لا يواسيه أحد، او يطرق باب داره فيما بعد لاستعلام اوضاعه المعيشية مع والدته وافراد أسرته، أو تشهد امرأة وفاة زوجها او ابنها في المستشفى بسبب عدم تغطية تكاليف العلاج، او ربما لخطأ طبي لا يُغتفر.
وهما (النوعان) لا يقلّ أحدهما عن الآخر في حجم الألم والتأثير البالغ على حياة صاحبه، وتأخذ القضية مديات بعيدة من الانسان الفرد الى صعيد المجتمع، عندما يتعرض جمهور عريض من الناس للاحتراق كما شهدنا حوادث مريعة طيلة سنوات “الحكم الديمقراطي”، من حادثة المسيب عام 2005 عندما احترق حوالي مائتين انسان بانفجار صهريج غاز وسط القضاء بعملية ارهابية جبانة، ومروراً باحتراق المئات من الناس في مول هادي سنتر في الكرادة عام 2016 ايضاً بعملية ارهابية، وليس انتهاءً بحوادث الحريق المريبة في المستشفيات، وليس آخرها؛ حريق مستشفى الامام الحسين، عليه السلام التعليمي في الناصرية مؤخراً.
بيد أن نوعاً آخر من الاحتراق لا يقل خطورة عن الاثنين يجربه العراقيون حالياً وهم يشهدون بغير قليل من الدهشة مسلسل لا يتوقف من الحرائق تلتهم المستشفيات، بعد أن كانت تطال دوائر حكومية في بغداد والمحافظات، فاذا بقي لديهم بصميم أمل بالقطاع الصحّي، بوجود مستشفيات أهلية وأخرى حكومية، ومراكز صحية خيرية في مناطق عديدة بالعراق، مع وجود عدد يُحسد عليه من الكوادر الطبية، من خريجي الكليات والمعاهد في تخصصات شتّى، مع تعزيز هذا الأمل خلال فترة المواجهة مع “كوفيد19” بنسبة عالية من النجاح قياساً بسائر دول المنطقة، فان نيران حرائق المستشفيات لا تلتهم الاجساد والقلوب المفجوعة وحسب، وإنما تلتهم الآمال في النفوس باحتمال تطور هذا القطاع تدريجياً، وتقديم الأفضل من الخدمات، بل واحتراق الآمال حتى باحتمال تحسّن الاوضاع بشكل عام مع اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية في تشرين الاول القادم.
ربما يعلم المعنيون (المسؤولون) في الدولة أو لا يعلم أن احتراق الآمال غير قابلة للتعويض او الترميم، فحتى لا ماتت الآمال، بالامكان إحيائها او تحفيزها من جديد، بينما الاحتراق شيء آخر كونه منبعث من احتراق سابق في الروح والجسد، كما هو الحاصل في عوائل المفجوعين بالناصرية، فأيّ أمل في نفوس هؤلاء عن قادم الأيام؟! أما عامة الناس فانهم سينظرون الى المستشفيات بغير الصورة المعهودة، على أنها مركزاً آمناً ومصدراً للانقاذ وتحقيقاً للصحة والسلامة، وإنما سيحمل البعض في نفسه مخاوفاً جمّة لدى دخوله أي مستشفى من احتمال حصول انفجار او حريق ما قبل أن يحصل على علاج لمرضه!
من يعنيهم الأمر في بغداد “المسؤولون” عليهم الا يسمحوا بتعرض الناس لعمليات احتراق متتالية تبدو غير طبيعية، و ربما متفعلة تطال أجساد الناس وقلوبهم، ولمن يتحدث عن تطبّع الناس على الاحتراق والموت طيلة السنوات الماضية، نسترعي الانتباه الى أن الموت آنذاك كان في مواجهة مع الارهاب التفكيري، فكان الناس يقدمون الشهداء في طريق بناء عراق خالٍ من الطائفية والعنف والكراهية القادمة من وراء الحدود الهدف منها تمزيق جسد المجتمع العراقي.
أما اليوم فان الوضع مختلف تماماً حيث الهدوء السياسي “النسبي” هو السائد، وعودة الحياة الطبيعية بالرغم من ظروف كورونا مع سيطرة لا بأس بها من المواطنين المتفاعلين مع اللقاحات، والاجراءات الطبية اللازمة المتبعة في مختلف المراكز الصحية، ما عدا انخفاض قيمة الدينار أمام الدولار وارتفاع اسعار بعض السلع الاساسية، بيد أن الناس كانوا في طريقهم يحثون الخطى بهدوء لاستقبال موعد الانتخابات والسعي مع بعض الآمال بالتغيير، فهل يجب على الناس التطبّع على احتراق الآمال بالتغيير وتحسّن الاوضاع في العراق؟! ومن الذي يقف خلف عملية الاحتراق هذه؟!
يحترق في العراق الضمير مع الاسف الشديد