يقول الله ـ تعالى ـ:{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنْ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}.
كيف اصبح ابراهيم خليلا للرب؟
وكيف جعله الله إماما؟
ومن يكون هذا الإنسان ـ الذي له له لحم ودم، ويمشي على الأرض ـ يرفعه الله الى تلك المرتبة العالية، ويجعل ـ الله ـ الملايين من البشر يُكرمون مقامه؟
يصف ربنا النبيَّ إبراهيم: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ}، صحيح أنه فرد، لكن تتلخص فيه أمّة من الناس، ومن يكرم هذه الشخصية العظيمة اليوم، هي أمم بأكلمها، فالله بارك في هذا النبي العظيم، وفي ابنائه، وجعل من ذريته الانبياء، ومنهم نبينا الأكرم، صلى الله عليه وآله.
بذل النبي ابراهيم، عليه السلام، نفسه للنيران، واعطى ابنه للقربان، وامواله كانت للضيْفَان، فما ملكه من نفسه وابنائه وأمواله، كلها بذلها لله ـ سبحانه وتعالى ـ والسؤال المطروح: ما هي الصفة التي جعلت تلك التضحية والفدى تتجلى في حياته؟
تلك الصفة؛ هي العبودية لله ـ سبحانه وتعالى ـ، لأن الله تجلى في قلب نبيه إبراهيم، فكان قلبه صندوق معرفة الرب، ملك السماوات والأرض وخلقهما.
الإنسان المؤمن حين ينفق في سبيل الله يتحول ماله الى ثروة اجتماعية، واقتصادية، واخلاقية
بالرغم من قلب النبي ابراهيم المطمئن، ورفضه عبادة النجمة، وكفره بالطاغوت..، إلا أنه كان يبحث عن المزيد من الطمأنينة، فلو بحثنا عن مصدر الخير الاساسي، وفتشنا عن تنمية الايمان والعرفان …، فإن ذلك سيكون باب كل خير عند التجلّي الالهي.
ولذلك نجد الإمام زين العابدين، عليه السلام، يخاطب الله: يا نعيمي وجنتي، يا دنياي وآخرتي”، ونقرأ في المناجاة الشعبانية: “إِلهِي هَبْ لِي كَمالَ الانْقِطاعِ إِلَيْكَ وَأَنِرْ أَبْصارَ قُلُوبِنا بِضِياءِ نَظَرِها إِلَيْكَ”، هذه الكلمات إذا تدبرنا فيها، ومثلناها في حياتنا، فإن حياتنا لن تكون الحياة المعتادة، فتنفصل عن الدنيا، وتتصل بالآخرة. يقول الإمام السجاد، عليه السلام: اللهم ارزقني التجافي عن دار الغرور”، والانابة الى دار الخلود”.
يقول الله ـ تعالى ـ: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى}، كان لدى النبي ابراهيم مرتبة اليقين، ولكنه يبحث عن عين اليقين، والفرق بينهما؛ فاليقين أن يعرف الإنسان ان الشمس ستغرب هذا اليوم لأنه يملك علما بذلك، لكن إذا وقف عند المغيب ورأى سقوط قرص الشمس وبالتالي مغيب الشمس، يتحول اليقين الى عين اليقين، وهذه هي رؤية الحقيقة بكل الوجود.
ثم يقول ـ تعالى ـ في سياق الآية الكريمة: {قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}، فأمره الله نبيه ابراهيم، بأن يذبح اربعة من الطيور، ويوزع لحومهم على جبال مختلفة، ثم دعا كل طير، {فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنْ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}. فعزة الرب بمعنى؛ الهيمنة الكاملة بالحكمة، فالحكيم لا يستعرض قوته بلا سبب.
الانفاق في سبيل الله .. تحريك لطاقات المجتمع
الانفاق صفة اساسية في المجتمع الاسلامي، وكنقطة اساسية؛ فأن الله يغدق على الانسان أكثر من حاجته، فالأذن تستطيع أن تسمع الآف الكلمات خلال اليوم الواحد، لكنها تسمع شيئا بسيطا في حدودها الممكنة، وكذلك العين فإن بإمكانها أن ترى الملايين من الصور، ولكنها ترى القليل منها، وكذا في بقية النِعم الأخرى، التي تكون فائضا عن الحاجة.
وفي هذه الحالة؛ إذا كان لدى الإنسان أموالا، وقوة، أكثر من حاجته، فما العمل بالفائض من حاجته؟ فهو أمام ثلاثة خيارات:
- إما أن يبقيها فتتلاشى.
- ان يصرفها في سبيل الشر.
- ان يصرفها في سبيل الخير.
الناس تحتاج الى المال والقوة وأي شيئ آخر إضافي يملكه الفرد، والكل يجب ان يتحمل مسؤوليته تجاه المجتمع، فقد يشكو البعض من قلة الزارعة في بلده، فإذا كان الآخرون مقصرون، فهل الإنسان يتخلى عن مسؤوليته مثلهم؟
في احد البلدان الإسلامية راجت فكرة بين الناس ـ عبر مواقع التواصل ـ مفادها: اي واحد يأكل أن فاكهة فعليه الاحتفاظ بنواتها، وعند خروجه من المدينة يزرع النواة خارج مدينته. بعدها قيل: أن مئات الآلآف من الاشجار زادت في ذلك البلد.
وهذا ما يسمى في العراق بالعمل الشبعي، وذلك يتجلى خلال أيام زيارة أربعين الإمام الحسين، عليه السلام، فالناس يُجندون انفسهم لخدمة بعضهم البعض، فهناك من يوزع الأكل، وهناك من يساعد الآخرين، وهناك من يغسل ثياب الزائرين، وغيرها من الاعمال، التي تزرع المحبة بين جموع الزائرين.
إذا كان لدى الإنسان أموالا اضافية، فلماذا يذهب الى شراء سيارة فارهة ـ فوق حاجته ـ مع امتلاكه سيارة أخرى، وبين الفنية والأخرى يبدل أثاث البيت، هذا عمل غير مقبول، وبدلا من شراء الامور الاضافية، يكون مورد الانفاق للاموال الاضافية الفقراء والمساكين
وهذه الطاقات موجود كل يوم، ولكن ـ للأسف الشديد ـ لا يستفاد منها إلا في أوقات ومواسم معينة، ولو افترضنا ان الناس استفادوا من طاقاتهم الاضافية، وابسط الطرق ان ينفقوها في سبيل الله في خدمة الآخرين.
فإذا كان لدى الإنسان أموالا اضافية، فلماذا يذهب الى شراء سيارة فارهة ـ فوق حاجته ـ مع امتلاكه سيارة أخرى، وبين الفنية والأخرى يبدل أثاث البيت، هذا عمل غير مقبول، وبدلا من شراء الامور الاضافية، يكون مورد الانفاق للاموال الاضافية الفقراء والمساكين.
خطب رجل من الاغنياء ـ في احدى البلاد الاسلامية ـ بنت صديقه الذي هو ايضا غني، فقرروا ان يكون العرس في اغلى الفنادق، واختيار افضل قاعات الاعراس، ويجلب الطعام الفاخر، وغيرها من متطلبات الأعراس باهظة الثمن.
لكن أحدهما ـ اي العريسين ـ اقترح على ان يكون الزواج بسيطا جدا مثل عامة الناس، وأن تتوزع الاموال التي رصدت للعرس للفقراء، والمحتاجين الى زواج، وان يكون عرس اولئك ـ المحتاجين ـ في نفس الليلة التي سيتزوج فيها الشابين الاغنياء، فتم في تلك الليلة تزوج ثلاثين شاب وشابة من العوائل المتعففة، بالاضافة الى زواجهما، فستين شخصا سعدوا بزواجهم. فالترف غير المعقول عند بعض الاغنياء بالإمكان تحويله الى المجتمع، وإنفاقه عليه.
دعيتُ ـ والكلام للمرجع المدرّسي ـ دعوة رسمية الى إحدى البلاد ـ لم يسمها السيد المرجع ـ فأخذوني الى دار الضيافة، وعند آون الأكل، احضروا ثلاثين نوعا من الطعام! عشرة مقبلات، وعشرة انواع من الكيك، وكنا نحن ـ الضيوف ـ خمسة اشخاص.
فقلت لمسؤول دار الضيافة: هل تعلم ان كمية هذا الطعام تكفي لاطعام قرية كاملة في الدول الفقيرة.
فقال المسؤول: نحن مأمورون بذلك!
يقول الله ـ تعالى ـ: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ}. فالإنسان المؤمن حين ينفق في سبيل الله يتحول ماله الى ثروة اجتماعية، واقتصادية، واخلاقية.
{وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}، فبعض الاحيان ينفق الانسان انفاقا بسيطا، فيتحول الى شيء كبير في المستقبل.
كتاب مفاتيح الجنان لمؤلفه الشيخ عباس القمّي، طبع ملايين المرات، وهناك مئات الآلآف من الناس استفادوا منه، وكم إنسان قرأ دعاءً واهدى ثوابه الى مؤلف الكتاب، والأخير يحصد الثواب في الآخرة، وأجر ذلك شيء لا يمكن إحصاؤه.
فذلك الذي بنى مسجدا ومات، لا يعلم كم ألف إنسان صلى في ذلك المسجد، وكم اضعافهم استفادوا منه في مجالات اخرى، فعمل الخير لا ينحصر بإعطاء الاموال الى الفقير وحسب، فأي عمل خير يضاعفه الله، لذلك على الإنسان المؤمن أن لا يبخل على نفسه بالعمل الصالح.
وآثار عمل الخير قد لا تُحصد حين العمل، بل قد تتأخر، ومن هنا فإن علينا أن لا نألوا جهدا في أي عمل خير يأتينا، ومن أعمال الخير هو الانفاق في سبيل الله، ولابد ان يكون ذلك بخلوص النية لله.
- مقتبس من محاضرة للسيد المرجع المدرّسي (دام ظله).