كثيرا ما اخذت تتوارد عبارة العودة الى الذات في الكتابات التي اخذت صبغة نهضوية، والمنفعلة عادة بفكر اليسار الثوري تارةً، والاشتراكي تارةً اخرى، وتأثراً بتلك الافكار اخذ مفكروا بلادنا ومنهم الاسلاميون يرددون العبارات ذاتها، حتى تعالت تلك الاصوات، وعلى الرغم من اعتقادنا بأن تلك الدعوات لا تخلو من فائدة وصوابها في احيان كثيرة، ولكن دعوات العودة هذه لانها انطلقت من بيئة مختلفة عن بيئتهم لم تكن ناظرة لجوهر المشكلة، ومتوقفة عند حلول مصطنعة متذبذة، متهافتة ذات اليمين وذات اليسار.
وقد تحدث القرآن الكريم مرارا عن العديد من اسباب التراجع الحضاري لهذه الامم، وقد بين ماهية اسبابه، وقد رسم خريطة من خلال وضع آليات للحد من ذلك التراجع، وفي الوقت نفسه لم يغفل الحديث عن الامم التي امتازت بالتقدم الحضاري مع بيان أهم اسباب هذا التقدم، في محاولة لإعطاء انموذجا يقتدى به من قبل الامم الاخرى قديما وحديثا.
وهناك جملة من الاسباب التي تؤثر على سلوك الانسان فتحرفه عن طريق الله ـ سبحانه وتعالى ـ، وتبعده عن الفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها، وفعل الصالحات وحب الخير والسعي لمرضات الله، منها الشيطان الذي حذرنا الله من اتباع خطواته الذي لا يأتي مباشرة، بل يستدرج الانسان شيئا فشيئا حتى يسقطه في بحر الشهوات والملذات التي يصعب الخروج فقد قال لنا: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ، وَأَنِ اعْبُدُونِي هَٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ}، ومنها النفس التي تامر بالسوء، وجاء في القرآن الكريم، على لسان النبي يوسف: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي}، ومنها الهوى الذي امرنا الله ـ تعالى ـ بمخالفته وعدم اتباعه: {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ}.
المرحلة الثالثة: هي مرحلة تصفية النفس من رواسب الذنوب وتلافي سيئاتها بالأعمال الصالحة، وفي هذه المرحلة يلتزم عمليا بالأبتعاد عن الذنوب التي ارتكبها ويحاول محو آثارها بالحسنات إذ {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}
وإذا انحرف الانسان ولم يستمع لأوامر الله جل وعلا ولم يصغي لضميره وارتكب المحرمات، فإن الله وهو اللطيف لم يترك هذا الانسان هكذا ليضيع، “فهو أرأف بعباده من أنفسم”، كما قال الحبيب المصطفى، صلى الله عليه وآله، وبيّن لهم في العديد من الآيات أن طريق العودة الى الفطرة السليمة مفتوح لهذا الانسان، متى ما توجه الانسان الى ربه ولم ينسَ العهد بينه وبين خالقه، فإن من شأن الذنوب أن تُبعد العبد عن طريق السعادة الابدية، الذي جعله الله لمن امتثل لأوامره واجتنب معاصيه، فإذا ما تاب توبة نصوحاً فإنه سوف يعود الى تلك الفطرة والى الذات، بل وأكثر من ذلك تكفل بمحو السيئات عنه، وقد جاءت الآيات المباركات واحدة بعد الاخرى وهي توضح كيفية سلوك هذا الطريق والمضي في هذا المشوار، وهنا تأتي عدة اسئلة ماهي التوبة؟ وماهي ضرورة التوبة؟ وهل هناك مراحل لهذه التوبة؟
والتوبة تعرف وتفهم على أنها هي الرجوع من الذنب، ولن يكون هناك رجوع الى اذا جاء معه ندم على هذا الفعل فكما ورد في الحديث: “كفى بالندم توبة”، إذ الندم يُعبّر عن يقضة الضمير، وهو يعبر ـ أيضا ـ عن عودة التائب الى ذاته وفطرته التي فطر عليها يوم خلقه الله ـ سبحانه وتعالى ـ، واودع فيه كل هذه المحركات والموجهات نحو فعل الصالحات.
ولعل هذا مايعكس وجهة نظر المفكرين الاسلاميين حينما يرون ان الخير اقدم صفة من الشر في داخل الانسان، وهو عكس ما يعتقده الكثير من المفكرين الغربيين امتدادا لافكار فلاسفة اليونان، إذ اعتقدوا بأصالة الشر في الانسان، فهو يُخلق وفي داخله نزعة الشر، فالندم يمثل بداية الرجوع عن الذنب، وهو عكس الاصرار.
وينبغي ان نلتفت الى وجوب المبادرة الى التوبة فإن الامراض القلبية حالها على اقل التقادير كحال الامراض البدنية، فالمرض إذا انتشر في الجسم يكون علاجه اصعب مما لو كان في بدايته، وقد أشار القرآن الى هذه النقطة المهمة، يقول ـ تعالى ـ: {وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}، وفي آية اخرى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا}، والتوبة النصوح هي المعالجة السريعة الفورية للخطا والعودة الى طريق الصواب.
ومن هنا ياتي السؤال: هل أنَّ هناك توبة تختلف عن الاخرى؛ ام انها واحدة في كل الاحوال؟ فقد دلت الآيات وكذلك الروايات على ان لها حقيقة واحدة ولكنها قد تختلف من شخص لاخر، كما هو حال كل فعل ياتي به الانسان تقربا الى الله، فقد يختلف من شخص لآخر حسب درجة اعتقاد وإيمان فاعل الفعل بضرورة هذا الفعل وأهميته، كما في قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا}، إذ هناك توبة نصوح واخرى ليست بنصوحوإنما هي مجرد ندم في لحظة من اللحظات سرعان ما تزول عنه ويعود الى سابق عهده كما هو حال اغلب الناس.
وقد قيل للإمام علي، عليه السلام: ما التوبة النصوح؟ فقال، عليه السلام: “ندم بالقلب واستغفار باللسان والقصد على ان لا يعود”، فالتوبة النصوح هي على ثلاث مراحل لابد للتائب ان يقطعها ليكن قادرا على ترك الذنوب، فحقيقة التوبة هي الرجوع الى الله بعد الاعراض عنه، او الرجوع الى الصراط المستقيم بعد الانحراف عنه، ولذك لابد ان يكون واضحا ومدركا من قبل التائب، أن الابتعاد عنه الله والانحراف عن سبيله خسرانا كبيرا لا يعدله خسران آخر، وإلا فكيف يُدرك اهمية التوبة، ومن هنا تبدأ حالة يقضة الضمية او العودة الى الذات حينما يبدأ بالندم على الذنب الذي اذنبه والانحراف الذي بدر منه.
وهذه المراحل الثلاث هي التي تحقق التوبة الصادقة النصوح وهي:
المرحلة الاولى: هي مرحلة يقظة الضمير، والشعور المذنب بانحرافه فيندم على معصية الله، وتعرضه لسخطه وعقابه، وحسب تعبير الامام علي، عليه السلام: “ندم بالقلب”، والتي تؤدي الى الإستغفار باللسان.
المرحلة الثانية: هي مرحلة الانابة الى الله ـ عز وجل ـ، والعزم على طاعته وترك عصيانه، وفيها يجب الاستغفار والقصد على ان لا يعود كما في حديث امير المؤمنين، عليه السلام.
المرحلة الثالثة: هي مرحلة تصفية النفس من رواسب الذنوب وتلافي سيئاتها بالأعمال الصالحة، وفي هذه المرحلة يلتزم عمليا بالأبتعاد عن الذنوب التي ارتكبها ويحاول محو آثارها بالحسنات إذ {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}.
ينبغي ان نلتفت الى وجوب المبادرة الى التوبة فإن الامراض القلبية حالها على اقل التقادير كحال الامراض البدنية، فالمرض إذا انتشر في الجسم يكون علاجه اصعب مما لو كان في بدايته
والسؤال الاخير ما لمن تاب من الذنب عند الله سبحانه وتعالى؟ إذ هناك الكثير من الآثار للتوبة فقد تعهد ربنا بغفران الذنوب فقال: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَىٰ}، وفي آية التوبة النصوح ذكر الكثير من هذه الاثار فقال: {عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَىٰ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، فآثارها هي: غفران الذنوب والسيئات، ودخول الجنة المملوئة بالنعم، وعدم الفضيحة في ذلك اليوم العصيب الذي ترتفع فيه الحجب وتظهر فيه حقائق الاشياء، لهم نور خاص بهم بين أيديهم وبأيمانهم ليضيء طريقهم الى الجنة، ويتجهون الى الله سبحانه وتعالى اكثر مما كانوا سابقا، ويرجون تكميل نورهم والغفران الكامل لذنوبهم.
ووعد الله المذنبين حتى وان كانوا مسرفين ان يغفر لهم ذنوبه فقال لهم: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}، وورد عن الامام الرضا عن آبائه، عليهم السلام، أنه قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وآله: “التائب عن الذنب كمن لا ذنب له”، وورد أيضاً عن النبي، صلى الله عليه وآله: “ليس شيء احب الى الله من مؤمن تائب أو مؤمنة تائبة”.
واذا كانت التوبة هي عودة الى الذات و الى فطرة الله التي فطر الناس عليها، او هي عودة الى الله فان الله يحب التوابين العائدين اليه، ويرتب على توبتهم الكثير من الاثار في الحياة الدنيا والاخرة، فينبغي المسارعة لها لا تأخيرها فلعل العمر ينقض الساعة.