ثقافة رسالية

العقل هو الدين (4) هل يتفوق العقل على المال في صناعة التغيير؟

يقول أمير المؤمنين، عليه السلام، في وصيته لابنه الإمام الحسن، عليه السلام، فيما اوصى به إليه: “يا بني لا فقر أشد من الجهل، ولا عدم أشد من عدم العقل، ولا وحدة ولا وحشة أوحش من العجب، ولا حسب كحسن الخلق، ولا ورع كالكف عن محارم الله، ولا عبادة كالتفكر في صنعة الله عز وجل يا بني العقل خليل المرء، والحلم وزيره، والرفق والده، والصبر من خير جنوده. يا بني إنه لابد للعاقل من أن ينظر في شأنه فليحفظ لسانه، وليعرف أهل زمانه. يا بني إن من البلاء الفاقة، وأشد من ذلك مرض البدن، وأشد من ذلك مرض القلب، وإن من النعم سعة المال، وأفضل من ذلك صحة البدن، وأفضل من ذلك تقوى القلوب. يا بني للمؤمن ثلاث ساعات: ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يخلو فيها بين نفسه ولذتها فيما يحل ويحمد، وليس للمؤمن بد من أن يكون شاخصا في ثلاث: مرمة لمعاش: أو خطوة لمعاد أو لذة في غير محرم”.

في هذه الوصية التي يوصي الأمير، عليه السلام، ابنه الحسن، عليه السلام، فيها الكثير من المفاهيم التي تشكل شخصية الانسان وتفكيره، وفيها أيضا من المفاهيم ما يمكن الإنسان من صياغة شخصيته وفق ما يريده الله ـ تعالى ـ.

ما هو معيار الفقر؟

“يابني لا فقرَ اشد من الجهل”، كلمة قصيرة لكنها تحمل في طياتها معاني بليغة، تحدد كيفية تفكير الانسان ومساره، فغالبية الناس يصرفون اعمارهم من أجل ان يوسع على نفسه في المال هروبا من الفقر، فكل إنسان لا يريد العَوز المادي، لذلك تفكير المجتمع في الأغلب ينصب على جمع المال، إلا ما ندر.

يجب أن نمتلك حس ودافع نحو العلم والتعقل، والعمل بما نعلم، وهذا هو الحس الأهم، فلو ملكنا الدنيا بما فيها، لكن عقولنا جاهلة، فما قيمة ما ملكناه؟ فملئ الارض ذهبا لن تنفع يوم القيامة

فأين ما وجد المال وجد ذلك الإنسان؛ فيتحمل الغربة، ويعاني أشد المعاناة، من أجل لقمة العيش، وهو عمل حسن أن يسعى لسد حاجته، ويستغني عن الناس بالمال الحلال، فالإنسان الفقير ماديا يعني أنه محتاج، وقد تؤدي به الحاجة الى الكفر، وإذا كان بإمكانه ان يحافظ على نفسه؛ فهل يضمن عدم انحراف ابنائه بسبب الحاجة؟ لان الابناء ينظرون الى من حولهم، فالقفر قد يؤدي بهم الى الكفر، وارتكاب المحرمات، كالسرقة والنهب، والتفكير الشيطاني طريق الى الكفر.

لكن الأشد فقراً الذي يغيب عن أغلب الناس، بل لا يستشعرونه هو فقر الجهل، فمن الذي يشعر به؟

يقول الله ـ تعالى ـ: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنْ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنْ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ}، وهؤلاء هم الغالبية، والإنسان المؤمن يسعى أن يبتعد عن عموم الناس في هذا الموضوع بالذات، فلابد من الخروج من التفكير الجمعي الخاطئ، ويجب أن يكون هناك تميّز بالعلم، والمعرفة، و بمعرفة الله، و العلم لا يقتصر بالمعلومات، وليس الجهل أيضا جهلها، بل الجهل الذي يبعد الانسان عن ربه، هو جهل العقل فيما يقابل العقل، فكما أن لدى الإنسان حسٌ داخلي للخروج من الفقر المادي، يجب ـ أيضا ـ ان يسعى للخروج من الفقر العقلي، والعلمي.

وكلام أمير المؤمنين، عليه السلام، يؤكد على بناء العقل وإكماله، وإلا اصبح الإنسان جاهلا بالمعلومة ولا يشعر بجهله، أو يكون ممن لديه معلومة ولا يطبقها، فهذا الإنسان يعيش الضلال.

فالذي لا مال لديه إذا تضرر سيكون الضرر على جسده وحسب، يقول الإمام علي، عليه السلام: “أَلاَ وإِنَّ مِنَ الْبَلاَءِ الْفَاقَةَ وَأَشَدُّ مِنَ الْفَاقَةِ مَرَضُ الْبَدَنِ، وَأشدُّ مِنْ مَرَضِ الْبَدَنِ مَرَضُ الْقَلْبِ أَلاَ وإِنَّ مِنْ صِحَّةِ الْبَدَنِ تَقْوَى الْقَلْبِ”، فمشكلة الإنسان الحقيقية تكمن في الخواء الروحي، وهو الجهل، وما يستتبعه من قبيل: انعدام التقوى، وعدم العمل بما يرضي الرب ـ تعالى ـ، لذلك مرض القلب جهله، وحجب  العقل وترك اتباعه.

ولذا يجب أن نمتلك حس ودافع نحو العلم والتعقل، والعمل بما نعلم، وهذا هو الحس الأهم، فلو ملكنا الدنيا بما فيها، لكن عقولنا جاهلة، فما قيمة ما ملكناه؟ فملئ الارض ذهبا لن تنفع يوم القيامة.

“ولاعُدمَ أشد من عدم العقل”، والعدمة يعني الفقر الشديد؛ وهذا من أخطر الامور التي تصيب الإنسان إذا كان هذا هو الفقر العقلي، فما فائدة أن يكون لدى الإنسان الملبس الجميل، والأموال الكثيرة، والبناء الواسع، لكنه غير عاقل! فهل ينفع الحكام ملكهم اذا كان مصيرهم الى جهنم؟

ما هو الغني الحقيقي؟

قد نرى إنسانا لم يحظَ من هذه الدنيا إلا بعقل نيّر ورشيد، لكنه في الآخرة يعيش روضة من رياض الجنّة، فعلماؤنا ومراجعنا على مر التاريخ، لم يكونوا ينظروا الى مكسبهم المعيشي أبدا، فبعض العلماء كان يأكل الخبر اليابس، بعد أن يغمسها بالماء! فكان جدهم ووقتهم ليس من أجل كسب المال، وكانوا يستطيعون كسبه بذهنيهم الوقادة، لكن لك الوقت والجهد بذلوه في العلم والتعلّم، لكي يرتقوا بعقولهم، ويقربوا من ربهم.

ومن النماذج المعاصرة ـ كمثال على ذلك ـ الإمام الخميني وهو حاكم دولة إيران ورابع دولة في العالم تصديرا للنفط، فبعد موته لم يترك شيئا سوى ارض ورثها من أبيه، مع اسطاعته ان يتملك ما يشاء.

وهناك من يصل الى الحكم، أو يكون موظفا تراه يستثري، فبالأمس كان معدما، واليوم يجني الأموال التي جمعها من الرشوة، والسرقات، وهكذا يصل الى الحكم عبر صفقات تجارية.

ونموذج آخر؛ السيد المرجع محمد الشيرازي، فهو لم يملك بيتا على رغم الاموال الشرعية التي تأتيه، و كذلك أخيه السيد صادق الشيرازي، لم يتملك اي شيء، وهكذا بقية العلماء، فالبيوت التي يأجرونها ويسكنونها بيوتا متواضعة. وهناك علماء يصرفون أموالهم في سبيل الله، فبيته يحوله الى مقر للعمل في سبيل الله، او قد تأتيه اموال شخصية فيصرفها للعمل في سبيل الله.

وكذا من الأمثلة؛ العالم النراقي، صاحب الكتاب الاخلاقي “جامع السعادات”، كان لديه ثوب واحد فقط، وعندما يريد تنظيف الثوب، لا يخرج من البيت. فهو معدم من حيث المال، لكنه لم يعدم العقل، هؤلاء العلماء وغيرهم، هم الذين وضعوا بصماتهم على مسار الحياة، فكتاب جامع السعادات يقرأه أغلب طلاب العلوم الدينية، وببركته يهتدون الى الخُلُق الحسن.

الذي لا مال لديه إذا تضرر سيكون الضرر على جسده وحسب، يقول الإمام علي، عليه السلام: “أَلاَ وإِنَّ مِنَ الْبَلاَءِ الْفَاقَةَ وَأَشَدُّ مِنَ الْفَاقَةِ مَرَضُ الْبَدَنِ، وَأشدُّ مِنْ مَرَضِ الْبَدَنِ مَرَضُ الْقَلْبِ أَلاَ وإِنَّ مِنْ صِحَّةِ الْبَدَنِ تَقْوَى الْقَلْبِ

وإذا عدنا الى حياة الانبياء، فسنرى ان الناس يطلبون منهم القصور والذهب، بينما يتوجه العلماء والانبياء الى عقل الإنسان لبنائه وتنميته. ومع الأسف فإن المجتمعات تقيّم العالِم على أساس عطاء المال، وهذا خطأ، فالعلماء يثيرون عقول الناس، وهم الذين يأخذون الأموال من الناس، يقول ـ تعالى ـ: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وما يريده السلاطين والحكام من الناس هو اللهث وراء المادية البحتة.

فالهدف من بعثة الأنبياء هي اثارة العقول، يقول أمير المؤمنين، عليه السلام: “فبعث فيهم رسله وواتر إليهم أنبياءه ليستأدوهم ميثاق فطرته ويذكروهم منسي نعمته. ويحتجوا عليهم بالتبليغ. ويثيروا لهم دفائن العقول”.

فمسؤوليتنا بناء عقولنا اولا؛ ثم بناء عقول الناس، “لا عدم أشد من عدم العقل” لذلك قضايا العلم تحتاح الى سعي ليلا ونهارا، على عكس الارزاق المالية التي قسمها الله ـ تعالى ـ بين عباده، فبناء العقل يحتاج الى جهد، يقول ـ تعالى ـ: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}، فهو يجاهد في بناء علقه من أجل الله.

لذلك علينا أن لا نغتر بالدنيا بما فيها، فهي لا تسوى ان يكون مقابل ذلك ان يبقى الانسان جاهلا ومحتقرا لنفسه، وعقله ضعيف، حتى العبادة لا قيمة لها من دون عقل، فالمعيار هو العقل الذي تكون به قيمة الانسان ومكانته، وعبادته.

عن المؤلف

آية الله الشهيد المجاهد الشيخ نمر باقر النمر

اترك تعليقا