سؤال مثير وغريب في جوهره.
للوهلة الاولى يستغرب الواحد منّا اذا طُرح عليه سؤال كهذا، فمن المؤكد أنه يتعلم من الأئمة المعصومين، عليهم السلام، كل ما يتعلق بأحكام الدين، ونظام الحياة، وايضاً الخصال الحميدة، وأمامنا المؤلفات بالعشرات حول سيرة حياتهم، الى جانب سيرة حياة الرسول الأكرم، صلى الله عليه وآله، ولكن!
على أرض الواقع، وعندما يكون الواحد منّا محاطاً بضغوطات ومتطلبات الحياة، بما لا يجد مجالاً للتفكير والتقييم والوصول الى الحقائق، يعلن فجأة استحالة التعلّم من تلكم الشخصيات، إلا القليل اذا سمحت له الظروف، وجادت عليه قدراته وامكاناته!
هؤلاء المنتجبين من بني البشر، قاموا بكل الفروض والمستحبات وما يريده الله ـ تعالى- منهم، وتحديداً ما يطلق عليه العلماء بـ “ترك الأولى”، وهي “ترك للمستحب وفعل للمكروه بما يضر في دنيا العبد دون آخرته نتيجه للغفلة عنه ـ تعالى ـ حتى لو كانت ناتجه عن فعل مباح
نحن نقرأ عن الصديقة الزهراء، وعن ابنتها؛ زينب العقيلة، وعن أمير المؤمنين، وعن الامام الحسين، وعن الامام الصادق، وعن الامام الكاظم، عليهم السلام، ونسمع الأدباء والخطباء يثنون عليهم ويظهرون عظمتهم ومنزلتهم ومنجزاتهم الحضارية، فنشعر بنوع من الفخر والاعتزاز كوننا ننتمي الى هذه المدرسة السماوية، بل ونحضر مجالس الذكر التي تتناول حياتهم، ونشارك في المآتم والاحزان على مصائبهم وكيف انهم استشهدوا على يد الطغاة الظلمة، ولكن! نلاحظ الفتاة الجامعية اليوم تشعر بالإحراج الشديد اذا تحدثت مع أحد في الجامعة عن كيفية مواجهة الصديقة الزهراء للزيف والانحراف، ونفس الشعور اذا تحدثت عن زينب العقيلة عن العلاقة المطلوبة بين البنت وأبيها، والزوجة مع زوجها واخوانها، وكيف انها سطرت الملاحم والدروس في واقعة عاشوراء وما بعدها. وكذلك الحال بالنسبة للرجال والشباب في الحديث عن الامام الحسين الذي أريق دمه على أرض كربلاء، والامام الكاظم الذي قضى سنين طوال من عمره في ظلمات السجون، وعن الامام الصادق الذي بدلاً من أن ينتهز فرصة الظروف السياسية والاجتماعية للصعود الى قمة السلطة، ولا يدعها لبني العباس، نراه يتجه الى نشر العلم وتربية العلماء.
ما معنى الحجة؟
نقرأ في القرآن الكريم آيات عدّة تؤكد قانون الحجة الإلهية في العلاقة بين الله –تعالى- وبين البشر، وعندما أراد الله توجيه الخلق نحو التوحيد والعبودية والقيم السماوية، أرسل أنبياء ومرسلين من رحم المجتمعات البشرية منذ نبي الله آدم وحتى النبي الخاتم، صلوات عليهم جيمعا، فهم جميعاً من صنف البشر، ولم يكونوا من صنف الملائكة، حتى نقل القرآن الكريم تساؤلاً فجّاً من البعض: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمْ الْهُدَى إِلاَّ أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً}، (سورة الإسراء،94)، وتأتي الاجابة في الآية التالية فوراً: {قُلْ لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنْ السَّمَاءِ مَلَكاً رَسُولاً}، فاذا كان الرسل والانبياء والأولياء من جنس الملائكة، لما كان على الناس حجة يوم القيامة بأن يتعلموا منهم ويقتدوا بمنهجهم، كما هي الإرادة الإلهية.
وهؤلاء المنتجبين من بني البشر، قاموا بكل الفروض والمستحبات وما يريده الله ـ تعالى- منهم، وتحديداً ما يطلق عليه العلماء بـ “ترك الأولى”، وهي “ترك للمستحب وفعل للمكروه بما يضر في دنيا العبد دون آخرته نتيجه للغفلة عنه ـ تعالى ـ حتى لو كانت ناتجه عن فعل مباح”، وهذا ما لم يفعله المعصوم، كما امتنع أمير المؤمنين عن شراء اللحم رغم ترغيب القصاب بأن ثمنه مؤجلاً، ولنا مثالاً حيّاً من واقعنا في المرجع الديني الراحل السيد محمد الشيرازي، ينقل عنه نجله الفقيه الراحل السيد محمد رضا الشيرازي أنه سأله ذات مرة عن سبب تأكيده على المستحبات بشدّة فأجابه: “ولدي! إن لم نفعل المستحبات لن يؤدي الناس الواجبات”.
من الطبيعي جداً؛ من يفكر دائماً بنفسه، وما تريد من تلبية الرغبات والنزعات، من مأكل وملبس وأموال وسلطة، يصعب عليه التفكير بالقيم والمبادئ، فضلاً عن التفكير بايجاد مصاديق عملية لها في حياته وفي واقعه الاجتماعي
وهذا يؤكد عدم وجود شيء اسمه “قيم مثالية” كما يتصور البعض، مثل التضحية، والوفاء، والصدق، والتواضع، والعدل، بل وحتى العلاقة بين العبد و ربه، فقد بلغ علماء وصالحين لم يكونوا معصومين، مراتب عليا من النزاهة والعفّة والتقوى، بما جعلهم يكونوا من ذوي الجاه عند الأئمة وعند الله ـ تعالى-، وهؤلاء سيكونوا حجّة على الناس، كما يكون الانبياء والمرسلين حجة ايضاً على البشر في أداء الواجبات وتجسيد القيم السماوية وهم بشر من الناحية الظاهرية لهم مشاعر وأحاسيس، يفرحون ويتألمون، ويأكلون وينكحون مثل سائر الناس، كما أكد على ذلك القرآن الكريم.
ولعل حجة الله في عباده غير المعصومين تكون أشدّ وأبلغ على سائر الناس يوم القيامة كون هؤلاء ليسوا معصومين، سوى أنهم بذلوا الجهد النفسي والروحي للترويض الى درجة السمو والطاعة المطلقة لله –تعالى-.
والسؤال هنا:
كيف وصل هؤلاء الى ما وصلوا اليه وهم اشخاص عاديون في المجتمع؟
عوامل عديدة لها مدخلية في الأمر نذكر واحدة منها وهي؛ عدم الاستغراق في الأنا والذات والبحث عن المصالح الشخصية، إنما التفكير في الدائرة الاجتماعية الأوسع وصولاً الى الأمة بأكملها، فالذي يكون ذو أفق بعيد في تفكيره يسهل عليه اقتفاء أثر المعصومين المنتجبين، ولذا نقرأ في قصص الناجحين العظام من علمائنا بأن أحدهم سأل ابنه عن ماذا يريد ان يكون في المستقبل: فقال: “أصبح مثلك” فنهره بشدّة وقال: “كان طموحي أن أكون مثل أمير المؤمنين، عليه السلام، واصبحت عالم دين”.
هذه النقطة المفتاحية الدقيقة هي التي يكتشفها ذووا الروح الشفافة من العلماء والصالحين في المجتمع الاسلامي وهم يقرأون بتدبّر سيرة حياة المعصومين، من النبي الأكرم، والصديقة الزهراء، والأئمة الاطهار، صلوات الله عليهم، وايضاً؛ ابنائهم، مثل العقيلة زينب، و أبي الفضل العباس، وابراهيم بن محمد العابد بن موسى الكاظم المعروف بالمجاب، والراقد الى جوار جدّه الامام الحسين، عليه السلام، وكيف تعامل هذا العالم والمجاهد مع دعوات التبرؤ من قبل الناصبين، وفضّل الموت على على البراءة من الامام الحسين وأهل بيت رسول الله.
فعندما يكتفي أمير المؤمنين “بطمريه”، (قطعتين من الملابس)، ولا يأكل إلا خبز الشعير المتحجر مع لبن خاثر تركزت فيه الحموضة، وهو قادر على لبس الجميل، وأكل اللذيذ، إذ لم يكون الإمام فقيراً بالمرة، ولم يكن في ذلك قد خدش في معصوميته، او أخلّ في منزلته عند الله، إنما حرصه الشديد على ايجاد مصاديق عملية للعدل، والمساواة، والتواضع، والصبر، وغيرها من القيم السماوية على ارض الواقع لزمانه، ولزماننا، والى يوم القيامة.
ومن الطبيعي جداً؛ من يفكر دائماً بنفسه، وما تريد من تلبية الرغبات والنزعات، من مأكل وملبس وأموال وسلطة، يصعب عليه التفكير بالقيم والمبادئ، فضلاً عن التفكير بايجاد مصاديق عملية لها في حياته وفي واقعه الاجتماعي، وهذا ما نلاحظه في أوساطنا الاسلامية (الدينية) التي يدعي فيها البعض الالتزام والتقرّب، بل وتمثيل الدين كله، بيد أن الواقع يصرخ بالبون الشاسع بين القول والعمل، ثم ظهور ممارسات ومتبنيات لا علاقة لها بالقيم والمبادئ التي ضحى من أجلها المعصومون، والأولياء والصالحون.