يقول الله ـ تعالى ـ: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً}.
لابد وأنك في يوم من الأيام أخذت عهدا أو وعدا من صديق لك في موضوع ما، وتحدد ذلك الوعد بزمن ومكان معين، وجاءت وقت الوفاء بالعهد، فلم يفِ به صاحبك، ولم يقدم تبريرا مشروعا لذلك، فما هو موقفك منه؟
الوفاء بالعهد من أهم سمات المجتمع الاسلامي، وهو من الركائز المهمة في توطيد الالفة والمحبة بين سائر أفراد المجتمع باختلاف مواقعهم الاجتماعية والعملية، والثقة المتبادلة تشكل الرصيد الضخم بين الناس في مختلف معاملاتهم، لأنهم محتاجون الى بعضهم البعض في مختلف شؤون حياتهم، فكل واحد يكمّل الآخر.
ومما يؤسف فإن هذه الخصلة الحميدة ـ الوفاء بالعهد ـ بدأت تتلاشى شيئا فشيئا في مجتمعاتنا الاسلامية، التي من الواجب عليها ان تكون في صدارة المجتمعات التزاما بهذا الخُلق الرفيع.
لا يقتصر الأثر السيء لعدم الوفاء بالعهد بين شخصين فقط، بل تمتد نيرانه الى المجتمع الذي يعيشان فيه، وعلى سبيل المثال، قد يَعد الأب ابنَه الصغير بجلب الحلويات او الالعاب من السوق حين عودته عصرا.
فهذا الطفل الذي لم يُدرك معنى مصالح الحياة وتقلب أهلها، وانتشر الكذب بين الكبار، يُدرك تماما أهمية الوفاء بالعهد حين يعود اليه أباه، ولم يفِ له بما وعده، فيحس في نفسه أن شيئا غريبا قد حدث، وأن الوعد الذي قطعه ابوه على نفسه، قد نكثه، فينزعج الطفل ويستشيط غضبا وحنقا.
وهذه الحالة كثيرا ما تنتشر بين الآباء والأمهات ـ وللأسف الشديد ـ بُغية اسكات الطفل، فيعدانه بمنفعة معينة، فيسكت ناظرا الى المستقبل، بما وعده أحد الأبوين، وحين يأتي الوقت المناسب يجد نفسه ضحية للكذب وخلف الوعد، ومن هنا تنشأ لديه ذات العادة، ويشب عليها، وهكذا في بقية الصفات الأخلاقية الذميمة.
“من هنا نجد تعاليم السماء تؤكد على الوفاء بالعهد، وتعتبره وظيفة حتمية لا يسع الإنسان إلا ادائها بكل امانة، واذا بالوفاء يصبح مسؤولية اجتماعية تفرضه التعاليم التربوية للأنبياء في نفس الوقت الذي هو مسؤولية انسانية”. (سماحة المرجع محمد تقي المدرسي؛ كيف تحيا سعيدا ؟، ص: 63).
اضحى القلق اليوم سمة عامة للحضارة الحديثة، ومن عوامله الاساسية فقد الثقة المتبادلة بين افراد المجتمع. فالدائن يخاف نكول المدين، والمؤجر يخشى جحود المستأجر، وصاحب المصنع يراقب عماله وهم يراقبونه لكي لا يهضم احدهم حق الاخر، واصحاب المحلات ومن اليهم يضعون الف عين على وكلائهم وشركائهم خوفاً وحذراً
يقول النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله: “لا دين لمن لا عهد له”، ويقول الإمام الصادق، عليه السلام: عدة المؤمن اخاه نذر لا كفارة له”.
وفي وصيته لواليه على مصر، يقول أمير المؤمنين، عليه السلام: “وان عقدت بينك وبين عدوك عقداً أو البسته منك ذمة فحط عهدك بالوفاء وادع ذمتك بالامانة فانه ليس من فرائض الله سيئ الناس اشد عليه اجتماعا مع تفرق اهوائهم وتشتت ارائهم من تعظيم الوفاء بالعهود”.
التضحية بالنفس أم خلف الوعد؟
في التاريخ العربي تروى قصة النعمان بن المنذر الملك العربي الذي دخل المسيحية ـ قبل مجيئ الاسلام ـ بعد ان كان وثنيا بسبب الوفاء بالعهد.
ذهب يتلهى بالصيد فتخلف عنه حراسه ومرافقوه وضل الطريق فضرب في الصحراء واذا به يبصر شبح خيمة من بعيد فانطلق اليها، فرحب به اهلها وذبحوا له شاتهم الوحيد وخبزوا له بحفنة من دقيق.
فلما طعم واراد ان ينصرف اثباهم بخبره وانه النعمان ملك العرب، وسأل عن رب البيت فأنبأ بانه حنظلة الطائي، فدعاه إلى الحضر ليعطيه اجر ما صنعه من معروف.
واصاب البادية جدب واتخذ الاعرابي طريقه إلى بلد النعمان ساعيا، ومن العادات الوحشية التي ابتلى بها النعمان انه كان قد اتخذ يوما بئيساً، ويوما سعيداً، اما يوم السعد فجعله عيداً حافلا يستقبل فيه الوفود ويكرمهم، واما يوم البؤس- الذي كان يرمز إلى اليوم الذي مات فيه ديماه فجأة- فقد اتخذه للانتقام من الطبيعة بأن يجلس في بيت شُيد له بجانب الصحراء، فأول قادم من تلك الجهة، هو الذي اصيب بلعنة الحياة، فكان يقتل سفها وعدوانا.
وبينما كان النعمان ينتظر القادم البائس في اليوم الموعود، واذا به بحنظلة قد اقبل، وفي قلبه الف علم وفي نفسه الف امل وامل بعطايا النعمان (ملك العرب).
وقال له الملك: ما اقدمك يا حنظلة في هذا اليوم البئيس الذي لا ارى فيه قادما إلا قتلته حتى قابوس ابني وفلذة كبدي فاطلب حاجتك فاني قاتلك.
قال حنظلة: لتكن خزائن الملك فداء نفسي ما تنفعني وفرة العطاء ان زهقت نفسي.
قال الملك: ان هذا لهو القضاء المحتوم ولن تجد من دونه ملتحداً.
فقال ايها الملك: ان كان لابد من قتلي فامهلني ارجع إلى اهلي اودعهم، وارعي شؤونهم.
قال: لك ذلك وهذه حمشاء ابل ولكن عليك ان تأتيني بضامن يكفلك.
واذا بحنظلة يلتفت إلى الحاضرين فلا يجد من يكفله سوى رجل كان يدعى بـ”قراد”.
فرجع الملك وانصرف حنظلة وتفرق الجمع على ان يأتوا بعد عام ليشهدوا مقتل حنظلة أو قراد كفيله.
وقبل ان تنقضي السنة بيوم نظر النعمان إلى قراد وقال له اراك من الهالكين فاجاب: فإن يك صدر هذا اليوم ولى فان غداً لناظره قريب.
واجتمعوا على ميعاد واستعجل الملك بقتل قراد ومنعه ذووا قرابته قائلين لنشهد انقضاء ساعات النهار فان لم يقدم حنظلة فلك ما تشاء.
وكان الناس واثقين جميعاً بان الاعرابي غاب إلى غير رجعة، وبالفعل كانت اشعة الشمس الصفراء تمسح جنادل الصحراء، وكان قراد يستعد للقتل وحنظلة لم يقدم.
وكادت الشمس تغرب، وكاد قراد يُقتل فإذا بحنظلة يسعى إلى الملك.
فنهره الملك قائلا: ما حملك إلى المجيء بعد ان نجوت من الموت؟
قال له: الوفاء بالعهد.
قال: فما حملك على الوفاء بالعهد؟
قال له: ديني الحق الذي حملني.
قال: وما دينك؟
وشرح حنظلة مبادئ دينه للنعمان وشرح الله صدر النعمان للدين الحق المتمثل في اتباع المسيح ـ ذلك اليوم ـ وهدى به امة من الناس بعد الغي والضلال البعيد.
إن الوفاء بالعهد من أهم الصفات الاخلاقية لتقدم المجتمعات وتمتين أواصر العلاقات السليمة بين ابناء المجتمع الواحد، والأسرة الواحد.
الوفاء بالعهد من أهم سمات المجتمع الاسلامي، وهو من الركائز المهمة في توطيد الالفة والمحبة بين سائر أفراد المجتمع باختلاف مواقعهم الاجتماعية والعملية، والثقة المتبادلة تشكل الرصيد الضخم بين الناس في مختلف معاملاتهم، لأنهم محتاجون الى بعضهم البعض في مختلف شؤون حياتهم، فكل واحد يكمّل الآخر
وقد “اضحى القلق اليوم سمة عامة للحضارة الحديثة. ومن عوامله الاساسية فقد الثقة المتبادلة بين افراد المجتمع. فالدائن يخاف نكول المدين، والمؤجر يخشى جحود المستأجر، وصاحب المصنع يراقب عماله وهم يراقبونه لكي لا يهضم احدهم حق الاخر، واصحاب المحلات ومن اليهم يضعون الف عين على وكلائهم وشركائهم خوفاً وحذراً.
ولقد اكثرَ الناسُ من قيود المعاملة، حتى اصبحت معقدة مستعصية فمن شاء ان يبتاع داراً جرت معاملات الطابو (السند الرسمي) في الف دائرة ودائرة، وكلما زادوا من تعقيب الأعمال خشية التزوير، كلما تفنن الإنسان في السرقة والتزوير والتزييف.
وهنا تتجلى لنا مرة اخرى خطورة الوفاء بالعهد، ومكانه الاسمى في المجتمع الراقي المتقدم، وضرورة وجوده لدى اولئك الذين يبتغون بناء حياة هانئة بعيدة عن القلق والاضطراب.
ولقد كان المسلمون ينعمون بالثقة المتبادلة بين افراد المجتمع عندما كانت التعاليم الإسلامية موجهة لواقعهم في العصور الغابرة فضربوا اروع امثلة اليسر في المعاملة. ونشاط الحركة التجارية رغم الظروف القاسية التي عاشوها. (المرجع محمد تقي المدرسي؛ كيف تحيا سعيداً؛ ص 71).