قال أمير المؤمنين، عليه السلام: “لَا جَمَالَ أَزْيَنُ مِنَ الْعَقْلِ”.
الإنسان بطبيعته يحب الجمال، ويهتم به، وتنفتح اساريره عند يرى المناظر الجميلة، فتُذهبْ همّه وغمه، والأمور الجملية لها تأثير على أعماق النفس، ولذلك ورد في الحديث: “ثلاث يذهبن الحزن: الماء والخضرة والوجه الحسن”. هذه لها تأثير النفس، فتقتلع الهموم والغموم، وتدخل السرور وما شابه.
إذا كانت غرفتك مبعثرة وغير منظمة، فإنها لا تريح النفس، وعلى النقيض من ذلك، إذا كانت مرتبة، فإن النفس تنفتح لها، وإذا كانت جميلة، فإن انفتاح النفس يزداد أكثر.
الجمال له دور كبير في تفاعل النفس واستجابتها، وراحتها..، لكنّ أجمل الجمال هو العقل، ولذا “لَا جَمَالَ أَزْيَنُ مِنَ الْعَقْلِ”، لأن الإنسان حينما ينظر الى شيء قبيح ينفر منه، وإذا نظرالى شيء جميل أقبل عليه، ولهذا فإن أجمل هذه الجمالات هو العقل.
ذلك أن الإنسان حينما يكون لديه عقل، سيكون لديه منطق، وأخلاق، وحسن تعامل، وتصبح تصرفاته ومواقفه حسنة وغيرها من الصفات الأخلاقية الجميلة والحسنة، فكل ما يرتبط به سيكون جميلا وحسنا، وهذه كله من بركة العقل، وهذا ينصرف الى عقيدته التي يختارها تكون جميلة وحسنة.
عن محمد بن سليمان الديلمي، عن أبيه، قال: قلت لأبي عبد الله الصادق، عليه السلام: (فلان من عبادته ودينه وفضله كذا وكذا)، قال: فقال: كيف عقله؟ فقلت: لا أدري، فقال عليه السلام: إن الثواب على قدر العقل
وإذا أردنا الجمال الحقيقي علينا أن نتوجه الى العقل لنهتم به وننميه، فأن يهتم الإنسان بمظهره الخارجي من ملبس جميل، وهيئة حسنة، فهذا جيد، لكن الأهم هو تنمية العقل وتجميله.
وحينما يقول الإمام علي، عليه السلام: “لَا جَمَالَ أَزْيَنُ مِنَ الْعَقْلِ”، فإن العقل هو أفضل شيء، فما الفائدة إذا كان ظاهر الإنسان جميلا، ونهايته الى النار؟
ولذا فإن المؤمن يُعطى الاجر على قدر عقله، فقيمة الإنسان في عقله، ولا يعني إذا كان ذوعبادة كثيرة أنه صاحب مقام عالٍ، فلا ربط في ذلك، فمقامه ومكانته تقاس بعقله.
هل للعبادة قيمة من دون عقل؟
فما قيمة العبادة التي كان عليها بعض الاصحاب، التي كانت نهايتها مبايعة “رِجْل” الحجاج الطاغوت؟! والذين حاربوا الإمام علي، عليه السلام، في النهروان وهم الخوارج، كانوا من العبّاد وقرّاء القرآن الكريم، فما هي قيمة عبادتهم؟
فبقدر ما نملك من عقل، يكون الأجر والثواب، والعقل هو مجانبة الهوى، ومعرفة الله ـ تعالى ـ، فمن يصلي ركعتين بعقل ويعرف لمن يصلي، أفضل من ذلك الذي يصلي طوال الليل، لكنه ساهٍ، فلا يدري ما يقول في صلاته!
عن محمد بن سليمان الديلمي، عن أبيه، قال: قلت لأبي عبد الله الصادق، عليه السلام: “فلان من عبادته ودينه وفضله كذا وكذا. قال: فقال: كيف عقله؟ فقلت: لا أدري.
فقال عليه السلام: إن الثواب على قدر العقل، إن رجلا من بني إسرائيل كان يعبد الله عز وجل في جزيرة من جزائر البحر خضراء نضرة كثيرة الشجر طاهرة الماء، وإن ملكا من الملائكة مر به فقال: يا رب، أرني ثواب عبدك هذا. فأراه الله عز وجل ذلك، فاستقله الملك، فأوحى الله عز وجل إليه: أن اصحبه.
فأتاه الملك في صورة إنسي، فقال له: من أنت؟ قال: أنا رجل عابد، بلغنا مكانك وعبادتك بهذا المكان، فجئت لا عبد الله معك. فكان معه يومه ذلك، فلما أصبح قال له الملك، إن مكانك لنزهة.
قال: ليت لربنا بهيمة، فلو كان لربنا حمار لرعيناه في هذا الموضع، فإن هذا الحشيش يضيع.
فقال له الملك: وما لربك حمار؟ فقال: لو كان له حمار ما كان يضيع مثل هذا الحشيش، فأوحى الله عز وجل إلى الملك، إنما أثيبه على قدر عقله”.
كيف يكون الثواب على قدر العقل؟
ولهذا بقدر ما نُنمي عقولنا نحظى بالثواب، ولذلك فإن أي عمل ـ مهما كان صغيرا ـ كان يقوم به رسول الله، صلى الله عليه وآله، يُثاب عليه، وكذلك الإمام علي، عليه السلام، فضربة أمير المؤمنين، يوم الخندق تساوي عبادة الثقلين الى يوم الدين، وذلك العمل قام به خلال لحظات، لكنه نال من الثواب الكثير الكثير، لان ما قام به كان عن علم ومعرفة.
إن الإنسان يكبر بالمعرفة، وذلك عبر التأمل في كتاب الله، وروايات النبي وأهل البيت، عليهم السلام، ويكبر ـ أيضا ـ بمجانبة الهوى وذلك كله يتم عبر تنمية العقل بالوحي
ونحن حين نصلي يجب أن تكون صلاتنا عن معرفة وبعقل، لا أن نصلي طوال الليل بدون معرفة، وإذا كنا ندعو بالدعاء الذي يستغرق أربعة ساعات من دون معرفة، علينا أن نتوجه الى دعاء يأخذ عشر دقائق بمعرفة وعقل، أفضل ذلك الذي يأخذ الوقت عبثا. وحين نصوم فنحن نكبح الهوى، لانه ـ الهوى ـ يحجب الحقيقة، وهكذا في بقية الأمور.
ما هي حقيقة الجمال؟
فالجمال والزينة شيء حسن، لكن الأحسن هو تنمية العقل، بل لو كنا نملك عقولا لفهمنا الآيات أكثر، فالاشكال في عقولنا، “لقد تجلى الله في كتابه ولكن الناس لا يبصرون”، ولهذا كلما ازددنا عقلا سنجد النور والعظمة الإلهييَن في كتابه المجيد. فقد نقرأ الآيات في وقت واحد، وآيات محددة للكل، لكن كل واحد له فهمه الخاص للآية على قدر عقله.
النبي، صلى الله عليه وآله، لم يخاطب الناس بكنه عقله، وإنما خاطبهم على قدر عقولهم، ولذا من الملاحظ فإن العقول القاصرة لا تتحمل حقائق الدين، يقول الإمام زين العابدين، عليه السلام:
يا رب جوهر علم لو أبوح به
لقيل لي أنت ممن يعبد الوثنا
ويقول الشاعر:
إِنّي لَأَكتُم مِن عِلمي جَواهِرَهُ
كي لا يَرى العِلمُ ذي جَهلٍ فَيَفتَتِنا
وَقَد تَقَدَّمَ في هَذا أَبو حَسَنٍ
إِلى الحُسَينِ وَوَصّى قَلبَهُ الحَسنا
يا رُبَّ جَوهَرِ عِلمٍ لَو أَبوحُ بِهِ
لِقيلَ لي أَنتَ مِمَّن يَعبدُ الوَثَنا
إنّنا بحاجة الى أن ننمي عقولنا لنفهم القرآن الكريم، وكلام النبي، وأهل بيته، ولذا جاء عن أبي عبد الله، عليه السلام، أنه قال: “حديث تدريه خير من ألف ترويه، ولا يكون الرجل منكم فقيها حتى يعرف معاريض كلامنا”.
إن الإنسان يكبر بالمعرفة، وذلك عبر التأمل في كتاب الله، وروايات النبي وأهل البيت، عليهم السلام، ويكبر ـ أيضا ـ بمجانبة الهوى وذلك كله يتم عبر تنمية العقل بالوحي، لأن الوحي هو الذي يُنمّي العقل، والقرآن الكريم جاء لقوم يعقلون، ولذا جاءت الخطاب القرآني: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} و {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}. يقول أمير المؤمنين، عليه السلام: “فبعث فيهم رسله وواتر إليهم أنبياءه ليستأدوهم ميثاق فطرته، .. ويثيروا لهم دفائن العقول”.