قال أمير المؤمنين، عليه السلام: “أصلُ الإنسان لبّه، وعقله دينه، ومُرُوْأته حيث يجعل نفسه، والأيام دُول، والناسُ إلى آدم شرعٌ سواء”.
في هذه الكلمات النورانية يبين الإمام علي، عليه السلام، بعض الحقائق التي يحتاج أن يعرفها الإنسان لكي يبني شخصيته وفق ما يرضي الله، ووفق ما خُلق له.
في البدء يبيّن الأمير ركيزة الإنسان وحقيقته، التي من دونها، يفقد قيمته وإنسانيته، فمن باب ـ المثال ـ السيارة اذا لم يكن فيها محرك، تكون عبارة عن جسم لا قيمة له، فتباع كقطع غيار.
الإنسان أصل لبه؛ أي علقه، واللب هو خلاصة الشيء، فالذي لا يمتلك عقلا، لا يستفيد من أي حقيقة، يقول الله ـ سبحانه وتعالى ـ : {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ}، والآيات هي العلامات التي تدل على توحيد الله، وعظمته، وحاكمتيه، وعلى أن الله هو المهيمن، وهو الرازق؛ فتلك كلها آيات وعلامات، لكن ليس كل واحد يقرأها، ومن يكتشفها ويقرأها هم اصحاب العقول {اُولِي الأَلْبَابِ}.
هناك فرق بين مَن يجعل قيمة نفسه لعبة بلاي ستيشن ، وبين من يجعل نفسه قارئا لكتاب، كالقرآن الكريم، يتدبر في آياته، او يقرأ روايات أهل البيت، عليهم السلام، او يقرأ الادعية ويعكسها على واقعه وسلوكه، إذاً فهناك فرق شاسع بين الحالتين
بعدها تبين الآية الكريمة صفات أولي الألباب: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}. فالعقل أعطاهم نورا يكتشفون منه الحقائق: {رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلْ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ}، وهذا هو المنهج الصحيح الذي سارورا عليه: {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ}، فهذه هي النظرة التي تؤدي الى أن يطمح الإنسان أن يكون مع رُسل الله، وليس مع هوامش الحياة من الناس، وهو ـ طموح ـ ينظر الى المصير( الآخرة).
- ما حقيقة الإنسان؟
كما أنه لابد للبيت من أصول وقواعد، وهي الأسس، كذلك الإنسان لابد له من أصل، يكون عبره إنسانا، و منه يحقق تكامله، وما يراد منه، لذلك “أصل الإنسان لبّه”.
لكن ما هي حقيقة العقل؟ وكيف نعرف الإنسان العاقل؟
بيّن الإمام علي، عليه السلام، هذه الحقيقة بكلمة واحدة، بعيداً عن الفلسفة والسفسطة، فيقول: “وعقله دينه”، فإذا اردت معرفة أي إنسان، فانظر أيَّ دين يختار.
ذلك إن الإنسان العاقل؛ هو الذي يختار الطريق الذي يؤدي به الى رضوان الله، والدين هو الطريق، فهناك من يُدين بالإسلام، وهناك من يعبد إبرة، فالذي يعبد هكذا إله، فعقله يتلخص في إبرة، وبعض العقول تتلخص في عبادة البقر. فالذي يختار اليهودية ويغفل عن الآخرة فعقله أيضا بمقدار اختياره، والذي يُدين النصرانية: فما لله لله، وما لقيصر لقيصر، كذلك فإن عقله بقدر ما اختاره لنفسه.
أما الذي يختار الإسلام فعقله أكبر، وفي الإسلام مذاهب، فمذهبه هو دينه، فهل يختار دين الأصحاب الذين ذهبوا الى النار، والقرآن الكريم تحدث عن صريح نفاقهم، وأنهم كفروا بعد الإيمان، فهذه حدود من اختار هذا الطريق.
وهناك مَن يختار مذهب أهل البيت، عليه السلام، الذي يقول الله في حقهم: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}، فهنا اختيار العقل قرآني، وذلك ما يوافق آيات القرآن الكريم، ذلك أن “العقل ما عُبدَ بهِ الرحمن واكتُسبَ به الجنان”، {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً}، والسبيل المودة في القربى، وهذا هو عقله، وبذلك يكون دينه.
والتشيع أكمل عقل من بقية المذاهب والديانات الأخرى، كذلك في التشيّع أي طريق تختار؟ هل طريق التبرير؟ أم طريق المسؤولية.
اختيار العقل يكون لتحمّل المسؤولية، يقول الله ـ تعالى ـ: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ}، ويقول ـ جل وعلا ـ: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ}. فطريق الإنسان في هذه الحياة؛ إما أن يتخذ موقفا، أو يبقى محايدا!
في المنطق الديني لا يوجد حياد، إنما الإنسان بموقفه، يقول الله: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}، فالمحايد لم يصدق ويدافع عن القيم.
فعقل الإنسان دينه، اي طريقته، فهل يكون طريق الفرد الصدق أم الكذب؟ فمن يكذب فذلك دينه وعقله، وتلك هي قيمته ـ الكذب ـ ونهايته الى نار جهنم، في المقابل هناك من عقله الصدق، فتصبح طريقته التواضع والمحبة والتعاون على البر والتقوى، وما شابه من قيم السماء.
فهناك عقل يتحمل مسؤوليته فتكون تلك طريقته، وهناك عقل آخر همّه الكذب، والخيانة، والتبرير، والاستهزاء، وتضييع الوقت.
ويبدأ هذا العقل من اختيار الدين، يقول ـ تعالى ـ: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ}، فهل هناك عاقل يختار غير الإسلام؟
- أين يجب أن نجعل أنفسنا؟
ثم يقول أمير المؤمنين، عليه السلام: “ومُرُوْأتَه حيث يجعل نفسه”، المروءة هي التكامل الإنساني، فقد يسير الإنسان على الطريق الصحيح، لكن قد يكون غير كاملا، وهنا تأتي المروءة التي هي تعبير عن التكامل. فالفرد الذي عنه مروءة عنده تكامل، ومن يفقدها فهو يعاني النقص، ويمتلك خصال ذميمة، وهو في طريق التسافل والتناقص.
كما أنه لابد للبيت من أصول وقواعد، وهي الأسس، كذلك الإنسان لابد له من أصل، يكون عبره إنسانا، و منه يحقق تكامله، وما يراد منه، لذلك “أصل الإنسان لبّه”
فحيث يجعل الإنسان نفسه تكون تلك هي المروءة، كأن يشارك في أعمال الخير، ويحضر مجالس الذكر، وطلب العلم، وتربية النفس وتزكيتها.
فهناك فرق بين مَن يجعل قيمة نفسه لعبة بلاي ستيشن ، وبين من يجعل نفسه قارئا لكتاب، كالقرآن الكريم، يتدبر في آياته، او يقرأ روايات أهل البيت، عليهم السلام، او يقرأ الادعية ويعكسها على واقعه وسلوكه، إذاً فهناك فرق شاسع بين الحالتين.
{اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ} فأيهما أفضل: أن يجعل الإنسان نفسه مع اللهو واللعب ..، أم يجلعها مع المؤمنين، والمجاهدين؟ {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ}، فمن يكرّس وقته فيما يرضي فهو يتكامل، فالفارق بين من يحضر المسجد، ومن يذهب دور اللهو، و بين من يجعل نفسه في مجالس الذكر، وبين من يكون مجالس البطالين والى بقية الأمور الأخرى.
- العمل مطلوب على كل حال
“والأيام دُول”، يعني: تقلّب الأيام والأحوال، فقد ترى أحدهم اليوم فقيراً، وغداً غنيا، وقد ترى حاكما اليوم، في السجن غدا، لذا لا يجب الاطمئنان الى الدنيا والاغترار بها، فلا يجب أن نغتر بغنى الغني، وبسطوة الحاكم، ولا بشهرة المشهور..، كذا لا يجب أن يتذمر الإنسان من فقره، بل يجب أن يتوكل على الله، في تغيير الأمور، التي تكون بسعيه وجدّه. يقول ـ تعالى ـ: {وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}، ويقول: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى}. ومن يعمل سيرى نتيجة عمله، فالأيام دول، فالحاكم الطاغي سيتغير ويزول، وهذا الإيمان يمنحنا الأفق، والعاقل هو الذي يمتلك هذه النظرة.
- ما هو معيار التفاضل؟
“والناسُ الى آدمَ شرعٌ سواء”، فلا فرق بين هذه العشيرة وتلك، “فالناس سواسية كأسنان المشط”، والعاقل هو الذي لا يفرق بين الناس، إلا بالقيم {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ}. ويقول ـ تعالى: {يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}. {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لا يَسْتَوُونَ}. وفي آية أخرى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}.
الناس متفاضلون بالقيم، أما في الأحكام فهم سواء، فالعشيرة والنسب والجاه وغيرها، لا تفضل أحدا على غيره، والإسلام لا يفضل الأخ على غيره، وهذه من عدالته، لكن اليوم الأحكام، تطبّق على الضعيف، أما القوي فلا أحد يصل إليه، والذي يمتلك الواسطة، ويمتلك النفوذ هو الذي يفعل ما يشاء. لذلك الإمام يعطي هذه الرؤية بأن أصلنا واحد وهو آدم، فلا أفضلية لأحد على غيره.
الخلاصة: أن الإمام علي، عليه السلام، بيّن لنا مجموعة من القيم ابتداء؛ بأن حقيقة الإنسان في عقله، وعقل الإنسان بقدر اختيار دينه، وتكامله حيث يجعل نفسه بمرؤته، وفيها يختار المجالس التي فيها يتكامل، كمجالس الذكر، وقراءة الكتب التي تعود عليه بالنفع.
ثم أن عليه ـ الإنسان ـ يصبح لديه ثقة بما عنده لأن “الايام دول” فالتغيير يكون بسعيه وعمله، وفي ذات الوقت يحذر أن يصيبه الغرور فيتعالى، ويحذر ـ أيضا ـ أن لا ينهزم أمام أحد، “فالناس سواسية”، يتفاضلون بالتقوى والعلم، والعمل الصالح، لا بالعشيرة، والنسب، والدولة وغيرها من المسميات الأخرى.