العين التي ينظر بها الإنسان الى جهود الآخرين ونتاجهم تختلف من شخص الى آخر، فثمة من ينظر بعين العاشق الولهان الذي لا يرى كم معشوقه إلا الجمال والخير والصلاح، فإذا أساء صاحبه، اعتبره فضلا وإحسانا، وإذا تجاوز الحد اعتبره شجاعة، وإذا سكت عجزا، اُعتبر سكوته حكمة.. وهكذا.
وتكون الحالة النفسية لدى أمثال هؤلاء حالة شاذة، ولذلك فالعاشق لا يتمكن من رؤية أية نقطة سوداء في حياة معشوقه، حتى قيل لمعشوق ليلى: إن معشوقتك ليست جملية.
فأجاب: لو جلستم على أهداب عيني، لما رأيتم في معشوقتي أي قبح، أو عيب، أو نقص.
وكذلك كان جواب بثينة لعبد الملك بن مروان، حين قال لها في مجلسه: إني لا أرى فيك ما قاله جميل؟
فأجابته: يا هذا إنه كان يرنو إليّ بعينين ليستا في رأسك.
فالعين العاشقة لا تقيّم الأمور بشكل موضوعي.
وثمة موضوع آخر ينظر بعين العدواة والكراهية ، فنظرته معاكسة لنظرة العاشق، فهي، دوما ترى الامور قبيحة ومستهجنة، وترفض كل شيء، فهي لا ترى من الصفحة البيضاء إلا النقطة السوداء فيها، ومن الناس إلا أخطاءهم، ومن أي نتاج إلا قبحه ومساوئه.
ولو قيّمنا النظرتين لوجدنا أنهما متساويتان من حيث النتيجة السلبية.
وفي المساحة بين نظرة العشق ونظرة العداء، هنالك نظرتان أخريان أيضا؛ فهناك نظرة الرقيب، ونظرة التلميذ، فالرقيب ينظر الى الامور بدقة وبتفحص ويبحث في المناهج والأسس التي يقوم عليها الشيء، والتلميذ يتواضع أمام استاذه ويهيئ نفسه لتقبل تعليماته، إلا أن نظرة الرقيب لوحدها قد تُوجد حالة التعالي والغرور، وكذلك نظرة التلميذ لوحدها قد تؤدي الى الانخداع بما يقوله الاستاذ.
إذا ألغينا الحضارة الأوروبية بجرّة قلم، وألغينا وجودها في أذهاننا، فهل تتبخر هي، أم أنها تستمر في الإنتاج وتغزو مخادع نومنا؟
إن الدمج والموازنة بين نظرة الرقيب ونظرة التلميذ يعطينا النظرة الواقعية والصائبة التي تعطي كل شيء حقّه، ذلك أن نظرة لا بأس بها، ولكنها لوحدها غير صالحة دائما، ونظرة التلميذ لوحدها أيضا ليست صحيحة دائما، لأن نظرة الرقيب تورث التعالي وتُفسد الإنسان والعمل، وأما نظرة التلميذ لوحدها تجعل التلميذ ينظر الى استاذه على أنه متقدم عليه، ولابد من التعلم منه، ولذلك قد يرى بعض اخطاء استاذه فيتغاضى عنها.
ولكن الدمج بين النظرتين يكون التلميذ قادرا على اكتشاف أخطاء استاذه لدى التقييم، وفي نفس الوقت لديه قابلية أخذ الامور الصائبة وعدم التعالي على استاذه.
لقد زوّد الله تبارك وتعالى جميع البشر، من اقصى الصين الى أقصى منطقة في الولايات المتحدة الامريكية، بالعقل والذوق، وبنى نفوسهم على الفطرة، ولا يتختلف الإنسان في ذلك عن أخيه الإنسان مهما اختلف لونه او شكله، او قوميته، فقد خلقهم الله ـ عز وجل ـ جميعا على سنّة واحدة وزوّدهم بوسائل التقدم؛ مثل الوعي والإدراك، وسنّ لهم القانون الإلهي الذي كشف عنه في قوله ـ تعالى ـ: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى}.
فاليابانيون سعوا في بناء حضارتهم بعقولهم، وبذلوا قصارى جهدهم، فكانت النتيجة أن العالم يشتري ما يُنتجون من البضائع، ويستفيد منهم بعض البشر، ويتلمذ على أيديهم آخرون.
والسؤال هنا: كيف توصّل اليابانيون الى هذا التقدم، وكيف كانت نظرتهم الى العالم؟ وكيف يجب ان تكون نظرتنا نحن الى الدول الصناعية المتقدمة؟
- لماذا تخلّفنا؟
نحن المسلمون كنّا ـ ولفترة طويلة من الزمن ـ آباء العلم، وبفضل الإسلام كنا صناع الحضارة، والعالم يشهد لنا بذلك، إلا أننا بعد ذلك أسلمنا جفوننا للنوم، فطال بنا المنام، وتقدّم الآخرون، إذ لم يجعل الله ـ عز وجل ـ التقدم حكرا في هذه الحياة علينا؛ يقول ـ تعالى ـ: {كُلاًّ نُمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً}.
فمن يزرع، ومن يعمل يرى نتاج عمله، وهذه سنة الله ـ تعالى ـ في الحياة، لكننا دخلنا في سبات عميق، وعندما استيقظنا رأينا غيرنا قد تقدم وأنتج وغزا العالم بمنتجاته.
النقطة المهمة اليوم هي تحديد نوع النظرة التي سننظر بها للحضارات الاخرى ولمن تقدم علينا، إذا لابدّ أن ننظر لمناهجهم ونتاجهم بنظرة موضوعية عادلة، لا نظرة العاشق الولهان، ولا نظرة العدو الغضبان، لأن كلتيهما خاطئتان.
فإذا ألغينا الحضارة الأوروبية بجرّة قلم، وألغينا وجودها في أذهاننا، فهل تتبخر هي، أم أنها تستمر في الإنتاج وتغزو مخادع نومنا؟
إن ذلك التقدم لم يأتِ من فراغ، ولا يمكن أن يُلغى بمجرد إنكاره، وكذلك لا يستفاد منه بمجرد الإعجاب به.
وفي الحقيقة إن نمو الحضارات يشبه نمو الكائنات، فهي تنمو ضمن بيئة مناسبة مع توفر مجموعة من الشروط الملائمة، فلا يمكن أن نلغي الشروط الأساسية لبناء الحضارات ونموها، ثم نندب حظنا.
تُرى لماذا استطاع الآخرون أن يكتشفوا الذرّة ويفجّرونها ولم نكتشفها نحن؟ بالرغم من أن القرآن الكريم قد أشار إليها؟
إن الله قد أوجد آبار النفظ في أرضنا، ولكند جاء غيرنا واكتشفها، واستخرجها، وحوّلها الى صناعات، ومن ثم يبيعها علينا بأغلى الأثمان على شكل قطع مصنعة.
فالخطأ يكمن في التفكير والمنهج، ومن ثم في الاساليب وطرق العمل.
إن البناء الحضاري اليوم يعتمد على نظرتنا الى الحضارات الاخرى، والتي يجب أن لا تكون نظرة عشق وذوبان، وكذلك يجب أن لا تكون نظرة عداوة وإلغاء، وإنما نظرة الرقيب في بعض الأمور، ونظرة التلميذ في أمور أخرى؛ فالرقيب فيما يرتبط بالمنهج، والتلميذ فيما يتربط بالصناعات والإنجازات، دون إلغاء هويّتنا وقيمنا.
نحن المسلمون كنّا ـ ولفترة طويلة من الزمن ـ آباء العلم، وبفضل الإسلام كنا صناع الحضارة، والعالم يشهد لنا بذلك، إلا أننا بعد ذلك أسلمنا جفوننا للنوم، فطال بنا المنام، وتقدّم الآخرون، إذ لم يجعل الله ـ عز وجل ـ التقدم حكرا في هذه الحياة علينا؛ يقول ـ تعالى ـ: {كُلاًّ نُمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً}
إن هذه المنهجية هي التي اتبعها اليابانيون في تقليدهم للحضارة الغربية، ومن المؤسف أننا نظرنا الى حضارة الغرب نظرة العاشق، فحينما يشتري أحدنا سيارة فارهة من انتاجهم، فهو يتصور بأنه قد جلس على كرسي العرش، أو أنه قد صعد على ظهر القمر.
أما اليابانيون فإنهم قد نظروا لها نظرة مزدوجة؛ نظرة التلميذ ونظرة الرقيب.
يقول صاحب شركة سوني (كيو موريتا) عن تأسيس شركته: “كان هنالك شخصان أحدهما ياباني، والآخر أمريكي، يمشيان في غابة، فتعقبهما أسد ضارٍ، فخلع الياباني حذاءه ليفرّ من الأسد، فقال له صديقه الأمريكي: هل تظن إذا خلعت حذاءك، أنك تسبق الأسد؟
قال الياباني: كلا، ولكن على الأقل إني سأسبقك، فيصل اليك الاسد أولاً، ويتشغل بك، وأنا أنجو منه!
ثم يستطرد قائلا: في بداية عملنا أردنا صناعة جهاز تسجيل، ولكن لم يكن في حوزتنا أي جهاز تسجيل ليمكننا تقليده، فاستعرنا جهاز تسجيل من أحد الجنود الأمريكيين، وحينما فتحناه، دهشنا لما فيه من الأجهزة، ورأينا أننا غير قادرين على صناعة شبيه له، فقررنا أن نصنع مجرد (شريط) للتسجيل، ولم تكن صناعة مثله صعبة.
وبالفعل قمنا بإنتاجه، وتلك كانت بداية تأسيسنا لشركة سوني، وقد بدأنا العمل برأسمال قدره 500 $ دولار، وكان مبلغا لا بأس به على ما يبدو في ذلك الوقت، كان عددنا قليلا فقد كنا لا نتجاوز الخمسة أشخاص.
ويضيف الرجل: وهكذا خلعنا أحذيتنا، وبدأنا نتسابق مع الأمريكان، كي لا يلتهمنا وحش التخلّف.
