ثقافة رسالية

ما هي مقاييس التطوّر الحضاري؟

ما هو الفرق بين مدنيّتين؛ واحدة تسخّر الإنسان لأغراض تجارية، وأخرى يسخّرها الإنسان لأغراض إنسانية؟

قد يكون السؤال واضحا أكثر عندما نقرأ هذا الخبر:

تستخدم بعض الشركات الفرنسية والأمريكية (الأجنّة) البشرية لصناعة مستحضرات التجميل؛ إذ يعتبر خبراؤها أنّ الجنين نظرا لأعضائه الطرية، هو أفضل مادة يمكن استخدامها لتلك المتسحضرات*، كما ذكرت بعض الاحصاءات أن الولايات المتحدة الأمريكية يدخلها سنويا أربعة آلاف جنين، عن طريق مافيا الأجنة، من اجل هذه الصناعات وغيرها.

أليس الإنسان أفضل الكائنات؟

ألم يفضله الله ـ تعالى ـ على كل ما في الكون؟

فكيف تتجرأ شركات تجارية همها الربح على أن تستخدم ( الأجنّة) البشرية كمادة تجارية؟

ثمّ أن هنالك مشكلة كبرى ف التعامل مع الصناعات التي صنعها البشر، فهذه الآلات إنما صنعت لكي تكون في خدمة الانسان، ولكن عمليا اصبح الانسان في خدمتها، والعتب هنا ليس على الآلات، لأن الآلات لا حول لها ولا قوة، وإنما صانع الآلة هو الذي جعلها تسخّره وتجعله عبداً.

نرى اليوم الولايات المتحدة الأمريكية ترفع شعارات براقة وجملية، وتدّعي أنها أكثر الدول تقدما في العالم، إلا أنها تخفي خلف هذه الشعارات عيوبا ومفاسد كثيرة

بهذه المقدمة نكون قد أجبنا ولو بشكل غير مباشر على السؤال الذي طرحناه في البداية.

لا مانع لدى أصحاب بعض الحضارات من التضحية بعشرات الألوف من الناس في سبيل تحقيق التقدّم في جانب مادي من جوانب الحياة، كما حصل في بناء الأهرامات في مصر.

ففي الحضارة الزائفة يُستعبد الإنسان ويذوق العذاب، بل وتبنى على اشلائه تماثيل وناطحات السحاب، وترسانات نووية، فيصبح الناس ضحية الوسيلة.

في حين أن الانسان قادر على بناء ذلك كله دون أن يُقيد بالسلاسل، او يُضرب بالسياط، وتُزهق روحه، ويُراق دمه.

ثم أن الطغاة يستعبدون الشعوب من اجل مصالحهم هم، لا من أجل حرية مصالح شعوبهم، بينما تستطيع الأمم أن تبني حضارتها بالحريّة والكرامة، وليس بالاستعباد والقهر والسياط.

الحضارة الحقة هي التي تجعل الانسان محور اهتمامها، ولذا لا تفرّق بين الأبيض والأسود، وبين الأصفر والأحمر..، فالجميع فيها سواسية، وكلهم متساوون أمام القانون، ولهم حقوقهم الكاملة في التمتع بنتائج الحضارة، بعد ان ساهم الجميع في صناعتها.

وعلى خلاف ذلك تجد أن المدنية القائمة تجعل رضا قوم من الناس هو الهدف الذي تبذل قصارى جهدها لنيله، وتوفر له كل ما يحتاج، وإن كان ذلك على حساب مصادرة حقوق الآخرين، فهذه الحضارة لا تنظر الى الناس نظرة متساوية، فالإنسان عندها هو قوم معين، وليس كل إنسان.

فمثلا لا تهتم هذه الحضارة بالإنسان الافريقي، أو الهندي، أو الذي يخالفهم ف العقيدة والتفكير، فلو أخذنا مثلا السياسة الأمريكية، إزاء شعوب العالم الثالث، لوجدناها قائمة على دعم حكوماتها الظالمة، التي تقوم بممارسة القمع والظلم ومصادرة حريات هذه الشعوب، دون الاهتمام بالشعوب نفسها.

ولا شك أن الحضارة الحقة هي التي تطالب تعاليمها بالدفاع عن الحقوق، ومواجهة الظلم والعدوان عن الجميع، بعيداً عن المصلحة والمنفعة.

لا شك أن الحضارة الحقة هي التي تطالب تعاليمها بالدفاع عن الحقوق، ومواجهة الظلم والعدوان عن الجميع، بعيداً عن المصلحة والمنفعة

إنّ أمير المؤمنين، عليه السلام، حينما خاصمه النصراني على درعه ـ وقد كان الإمام عليه السلام حينها هو الحاكم ـ لم يأخذه بالقوة، وإنما ذهب مع النصراني الى القاضي وتحاكم عنده، فقال عليه السلام: “إن هذه درعي لم أبع ولم أهب”.

فقال النصراني: ما الدرع إلا درعي، وما أمير المؤمنين عندي بكاذب.

فالتفت القاضي الى الإمام علي، عليه السلام، قائلا: “يا أمير المؤمنين هل من بيّنه؟

فقال، عليه السلام: “لا”.

فقضى القاضي بالدرع للنصراني.

فمشى النصراني هنيئة ثم اقبل، فقال: أما أنا فاشهد أن هذه احكام النبيين، أمير المؤمنين يمشي الى قاضيه، وقاضيه يقصي عليه، اشهد ان لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، الدرع والله درعك يا أمير المؤمنين.

قال، عليه السلام: “أما إذا اسلمت فهي لك”، وحمله على الفرس.

لقد كان الإمام، عليه السلام، آنذاك رئيس الدولة الاسلامية، وكان وفقا للحسابات التقليدية قادرا على حسم القضية لصالحه بواسطة الأدوات السلطوية  المتوفرة لديه، غير أن للإسلام رؤيته الإنسانية السامة التي لا تفرّق بين إنسان وآخر، وإن كان أحدهما نصرانيا والآخر هو خليفة المسلمين.

في المقابل فإن المدنية التي تسخّر الإنسان لأغراض ومصالح خاصة هي في الواقع بعيدة عن المفهوم الحضاري المتكامل، كما أنها في العادة تتميزبالكذب والخداع، لتخفي عيوبها وتظهر نفسها بالمظهر الحضاري.

فعلى سبيل المثال نرى اليوم الولايات المتحدة الأمريكية ترفع شعارات براقة وجملية، وتدّعي أنها أكثر الدول تقدما في العالم، إلا أنها تخفي خلف هذه الشعارات عيوبا ومفاسد كثيرة.

لقد كشف تقرير للأمم المتحدة أعده فيليب ألستون ـ مقرر الأمم المتحدة بشأن الفقر المدقع وحقوق الإنسان ـ عن حجم الفقر في الولايات المتحدة في عهد الرئيس دونالد ترامب قائلا: “إن ما يصل الى اربعين (40) مليون شخصا، أو نحو 12,7% من الشعب الامريكي يعيشون في فقر، فيما يعيش 18,5 مليون في فقر مدقع، ويشكل الأطفال واحدا من كلّ ثلاثة فقراء”.

 وأضاف :”إن الولايات المتحدة لديها أعلى معدل لفقر الشباب بين الدول الصناعية”.

وخلص المحقق ألستون الى ان الفقر في الولايات المتحدة واسع النطاق، ويستفحل في ظل إدارة الرئيس دونالد ترامب الذي يبدو أن هذه سياسته هو إلغاء شبكة الامان التي تحمي ملايين الفقراء، فيما يكافئ الاغنياء، كما ودعا السلطات الامريكية الى توفير حماية اجتماعية قوية ومعالجة المشكلات الكامنة وراء ذلك، بدلا من معاقبة ومحاصرة الفقراء”(www.ohchr.org. 22 june 2018).

وهذا مثال واضح يدل على اضطراب المقاييس، الامر الذي يؤدي الى التباين الخطير في اعطاء الحقوق ومراعاة المساواة بين ابناء الشعب الواحد، صحيح أن علينا أن نأخذ بعين الاعتبار الاختلاف في المهام والأدوار المناطة بشخص دون آخر، غير أن ذلك لا يعطي مبررا لكي يعيش ذلك المواطن تحت خطر الفقر.

من هنا فلا يمكن أن نسمي الدولة التي يُظلم فيها إنسان واحد ـ حتى لو كان في أقصى نقطة من جغرافيتها ـ لا يمكن أن نسميها دولة حضارية، إذ يجب أن يرفل الجميع تحت خيمة العدالة والمساواة، ولهم حقوقهم المضمونة، حتى نعتبرها ذات صبغة حضارية.

ويمكن اكتشاف الفرق بين الحضارتين ( المادية والإنسانية) بمتابعة الحالات الاستثنائية، فعندما ندرس الوضع القائم في أية دولة من خلال تعامل النظام مع السجناء مثلا، ونتساءل هل تتم المعاملة معهم كأناس لهم كرامتهم وحقّهم في الدفاع عن انفسهم؟

أم يُتعامل معهم كحيوانات، بل أسوأ مما يُتعامل مع الحيوانات؟

إن الحضارة الحقيقية هي تلك التي تسخّر الآلة للانسان، لا التي تسخّر الإنسان للآلة، ومتى ما توفرت للإنسان حقوقه المادية والمعنوية من أكل وشرب، وإبداء الرأي، وحرية العقيدة، فعندئذ ستكون الحضارة كفيلة بإسعاده، وبرفعه الى مستوى الرقي والسلام.

تلك هي الحضارة الحقيقية التي تستحق التضحية بالعشرات لإنقاذ الملايين، وليس العكس: التضحية بالملايين لمصلحة العشرات.


  • The Washington Times – Tuesday, November 3, 2009.

عن المؤلف

آية الله السيد هادي المدرسي

اترك تعليقا