فقدان الثقة بين الطبيب والمريض
من أساسيات النظام الصحي في المجتمع، بل من اساسيات كل الانظمة المجتمعية، هو الثقة بين اطراف النظام، وفي العناية الطبية. المريض ومعالجه هما الطرفان الرئيسيان، مع وجود اطراف اخرى تؤثر على هذين الطرفين.
فالامر في الواقع يتوسع في كثير من الاحيان من المريض الى اهله واصدقائه، وكل من يؤثر عليه وصولا للاعلام والمجتمع. ومن الطبيب الى الكوادر الصحية بكل تدرجاتها كالتمريضي والتحليلي والصيدلي والتقني وغيرهم الى المنظومة الصحية بشكلها الكامل.
واي متفكر في الامر يدرك أن فقدان الثقة بين الطبيب والمريض او اضطرابها، سينتج عنه ضياع كل الجهود او بعضا مما يبذله الطبيب والمريض لعلاج المرض او الوقاية منه. هذا الموضوع في الواقع له أهمية كبيرة في حفظ أرواح الناس، ولعلاجه صعوبة وإشكالية لا يستهان بهما.
على الطبيب المسؤولية الكاملة في ان يبدأ ويحاول في علاج الاسباب التي يكون هو مسببها في ما يضر علاقة الثقة بينه وبين مريضه، كذلك على المريض وذويه، والمجتمع ومن فيه، والجهات المسؤولة ومن كلف بتحمل المسؤولية
ولا فائدة من تكرار ذكر أي مشكلة بدون النظر الى اسبابها والسعي في ايجاد علاج ولو بشكل تدريجي ونسبي وتراكمي لها، و إن استصعب علينا علاج كل الاسباب، فليس من المنطق ان نترك علاج بعضا منها ان تمكنا من ذلك .
- عدم الثقة من المُسبب؟
من الملاحظ في اسباب فقدان الثقة بين الطبيب والمريض، هو تعدد المسببات وتداخلها؛ فمنها ما كانت من الطبيب، او الممرض، او الصيدلاني، او المختص في التحليلات، او غيرهم من الكوادر الطبية.
ومنها ما كان من المريض نفسه، ومن عائلته واصدقائه، وكل من يؤثر عليه، ومنها ما كان من المجتمع وما شاع فيه من مفاهيم، كذلك الاعلام والسياسة لهما الدور المؤثر في زعزعة الثقة او حتى القضاء عليها.
في بعض الاحيان، من المؤسف اننا إن تحدثنا في الوسط الطبي عن هذه المشكلة سار التركيز في الحديث بإتجاه ما يتحمله المريض وذويه، والاعلام، والجهات الحكومية من مسؤولية في الامر، واذا ذُكر دور الجهاز الطبي فيذكر بحياء وعلى الهامش.
وفي الجانب الآخر، ان تحدثنا في الاوساط المجتمعية عن الموضوع سار التركيز بإتجاه ما يتحمله الاطباء والكوادر الطبية والحكومة من تقصير و أخطاء ما يجعلهم يتحملون المسؤولية بالدرجة الاولى مع تهوين، او تقليل ما يتحمله المجتمع والمريض نفسه وعائلته من مسؤولية.
وبالواقع ان هذه الأشكالية، أي أشكالية نظر كل طرف الى الطرف الآخر على انه هو المسبب، هي العقبة الاولى في إيجاد حلول لمشكلة فقدان الثقة كما هو الحال مع أي مشكلة أخرى. فكل طرف ينظر الى تقصير غيره ويحمله المسؤولية وينسى نفسه. لكننا ان نظرنا بصدق ووجدان، لوجدنا ان الحل يكمن في ان يبدأ كل واحد منا بنفسه، لا بغيره. فكلنا قادرون على إصلاح انفسنا اكثر من إصلاح غيرنا “ومعلم نفسه ومؤدبها أحق بالاجلال من معلم الناس ومؤدبهم “. (نهج البلاغة الحكمة 70).
فعلى الطبيب المسؤولية الكاملة في ان يبدأ ويحاول في علاج الاسباب التي يكون هو مسببها في ما يضر علاقة الثقة بينه وبين مريضه، كذلك على المريض وذويه، والمجتمع ومن فيه، والجهات المسؤولة ومن كلف بتحمل المسؤولية، على كل واحد منهم ان يبدأ في علاج الاسباب التي تكون من طرفه هو لنصل الى تقريب المسافة في طريق علاج هذه المشكلة.
ولعلاج الاسباب، نحتاج في بادئ الأمر الى ان نتعرف عليها بموضوعية و نسعى لعلاجها، لا أن نبادر الى توجيه الاتهامات، مما ينتج عنه عزوف الاطراف عن السعي في ايجاد الحلول، ولان المقام لا يسع ذكر كل الاسباب، بل يصعب الامر واقعا، سأذكر اشهرها، واختصر الذكر في هذا المقال، وفي مقال يتبع سأفصل في المسببات وما يمكن ان يكون حلا او علاج.
- تفهّم مشاعر المريض
كوني طبيباً، سأبدأ بنفسي وفريقي؛ فما يتحمله الكوادر الطبية لا يمكن اغفالة او غض النظر عنه في ما يقلل الفجوة وفقدان الثقة، ففي الطب يعرف مفهوم نفسي يصطلح عليه بالـ”Empathy”والذي يترجم بالتقمّص العاطفي.
هذا المفهوم هو مفتاح لعلاقة طبية ناجحة بين الطبيب والمريض، وهو بمختصر العبارات، أن ينظر الطبيب الى المشكلة من جهة المريض، أي أن يرى المرض او ما يسبب الخوف من وجهة نظر المريض واهله، وليس من وجهة نظره هو كطبيب. هذا الامر سيعطي الطبيب صورة واضحة تساعده في فهم المريض، واختيار الكلام المناسب للمريض ومستوى فهمه وفق الظروف النفسية التي يعيشها المريض واهله.
ولا يعني هذا المفهوم ان يتعامل الطبيب بعاطفة، والتي قد تؤثر سلبا على تعامله بموضوعية وعلمية بدون تأثير الجانب العاطفي على القرار، بل النظر الى فهم العواطف لمعرفة الطريق الصحيح للتعامل معها وليس ان نعيشها.
فالعواطف طبيعة بشرية لا يمكن تجاهلها، وقد تكون حاجز صلب بين الطبيب ومريضه، و فهمها وفهم المطلوب للتعامل معها افضل بكثير من التصادم معها.
من النافع ان تكون عند الناس ثقافة طبية سليمة وان يهتموا بفهم الامراض التي تصيبهم والادوية التي يتناولوها وما يصاحبها من اعراض جانبية او مضاعفات مستقبلية، لكنهم مهما حاولوا واطلعوا على معلومات، فستغيب عنهم معلومات كثيرة
وقد يظن البعض ان الامر فيه تضييع لوقت الطبيب، لكن في الواقع الامر عكسه تماما، فهذه المهارة توفر على الطبيب وقتا وجهدا كان ليضيع بسبب فقدان الثقة بين الطرفين، ففي اغلب الاحيان، يخرج المريض من عيادة الطبيب وفي نفسه قرار بزيارة طبيب آخر وعدم الاخذ بما ذكره الطبيب الاول، وهذا بحد ذاته تضييع لكل ما صرفه الطبيب الاول من وقت وجهد قد صرفهما في المعاينة، ولا يكفي ان يشعر الطبيب انه متفهما لحالة المريض، بل المطلوب ان يشعر المريض ان طبيبه يتفهمه.
ومن جهة المريض وعائلته، فقد يدفعه ولعدة اسباب الى ان يحاول بنفسه أن يشخص حالته والعلاج المناسب وما ينفعه وما يضره، فيسعى للبحث والقراءه بكل ما يقع تحت يده، ولا يأخذ اي علاج إلا ما اقتنع به، بل انه قد يتناول الادوية من تلقاء نفسه ويوقف تناولها من تلقاء نفسه، ولهذا التصرف مخاطر وعواقب وخيمة.
فمن النافع ان تكون عند الناس ثقافة طبية سليمة وان يهتموا بفهم الامراض التي تصيبهم والادوية التي يتناولوها وما يصاحبها من اعراض جانبية او مضاعفات مستقبلية، لكنهم مهما حاولوا واطلعوا على معلومات، فستغيب عنهم معلومات كثيرة. بالإضافة الى عدم امتلاكهم القواعد الطبية التي تمكنهم من تحديد ما هو مناسب لهم وما هو مضر، و قراراتهم تتأثر بالعاطفة والخوف بشكل كبير.
ومن جهة اخرى، يُعد غياب النظام او عدم تطبيقه احد اهم الاسباب في فقدان الثقة بين الطبيب ومريضه؛ فالطبيب الذي يعمل في بيئة لا يسودها النظام والقوانين التي تحميه من ضرر الغير، وتحاسبه عند التسبب في اي ضرر وفق حدود الضرر، وتحميله فوق طاقته ما هو خارج سعته ومسؤوليته، كل هذه الامور تتسبب في حدوث أخطاء نتيجتها الضرر على الطبيب ومريضه لا المريض وحده.
فلكل واحد منهم واجبات وحقوق، و أي تقصير في واجب او تعدي على حق ينتج في زعزعة الثقة بل ربما فقدانها.
وفي المقال القادم سنفصل اكثر في الاسباب بموضوعية ورغبة في ايجاد حلول واقعية، والله المستعان.