يقول الإمام زين العابدين، عليه السلام: “اللَّهُمَّ خُذْ لِنَفْسِكَ مِنْ نَفْسِي مَا يُخَلِّصُهَا، وَأَبْقِ لِنَفْسِي مِنْ نَفْسِي مَا يُصْلِحُهَا، فَإِنَّ نَفْسِي هَالِكَةٌ أَوْ تَعْصِمَهَا“.
“الدنيا سوق ربح فيها قوم وخسر آخرون”، فالذي ربح في هذا السوق هو الذي كانت تجارته مع الله ـ تعالى ـ، أما الذي كانت تجارته مع غير الله فقد يربح وقد يخسر.
لدى الإمام زين العابدين، عليه السلام، في الصحيفة السجادية، عبارة رائعة، يقول: ” وأَنْتَ الَّذِي زِدْتَ فِي السَّوْمِ عَلَى نَفْسِكَ لِعِبَادِكَ ، تُرِيدُ رِبْحَهُمْ فِي مُتَاجَرَتِهِمْ لَكَ”.
غالبية الناس عندما تريد شراء الحاجيات تريد شراءها بسعر رخيص، وفي البيع بسعر غالٍ، وهذا ما يبينه الإمام ان الله ـ تعالى ـ وهو الذي يشتري من الناس زاد في السوم على نفسه، في متاجرة العباد معه، يقول الله ـ تعالى ـ :{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.
البشر بطبعه يميل الى الدنيا، وهي ـ الدنيا متزينة ـ للناس، والشيطان ـ ايضا ـ يزينها أكثر، فإذا التفت الإنسان إليها اخذته، ولهذا جاءت الآيات والروايات تحذر الإنسان من التوغل في الدنيا
ويقول الله ـ تعالى ـ في آية أخرى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}، فالتجارة مع الله يكون الثمن والمثمن من طرف، فالأموال التي يملكها الإنسان من الله، وبدنه من الله، ووقته منه ..، هذه كلها التي هي من الله، إذا ارجعها الإنسان فسيحصل على مقابل، ولذلك هذه التجارة لا خسارة فيها.
وهنا لا بد من طرح سؤال: لماذا يطلب الله منا الاعمال ويشغلنا بالطاعات؟
لان هذه النفس لابد من تطهيرها، وتنظيفها، ولهذا يبتلينا الله في الأموال والأنفس، ويشغلنا بالطاعات وإلا فستكون تلك النفس “إلهِي إليْكَ أَشْكُو نَفْساً بِالسُّوءِ أَمَّارَةً، وَإلَى الْخَطيئَةِ مُبادِرَةً، وَبِمَعاصِيكَ مُولَعَةً، وَلِسَخَطِكَ مُتَعَرِّضَةً، تسْلُكُ بِي مَسالِكَ الْمَهالِكِ، وَتَجْعَلُنِي عِنْدَكَ أَهْوَنَ هالِك، كَثِيرَةَ الْعِلَلِ طَوِيلَةَ الاَمَلِ، إنْ مَسَّهَا الشَّرُّ تَجْزَعُ، وَإنْ مَسَّهَا الْخَيْرُ تَمْنَعُ، مَيَّالَةً إلَى اللَّعِبِ وَاللَّهْوِ، مَمْلُوَّةً بِالْغَفْلَةِ وَالسَّهُوِ، تُسْرِعُ بِي إلَى الْحَوْبَةِ، وَتُسَوِّفُنِي بِالتَّوْبَةِ”.
ذات يوم مات طفل للإمام الصادق، عليه السلام، إثر سقوط، فقال عليه السلام: الحمد الله الذي يقتل اولادنا ولا نزداد فيه إلا حبا”، فمن يفهم ان الابتلاء هو تخليص لنفسه، وتطهير من الله، يكون “للَّهُمَّ خُذْ لِنَفْسِكَ مِنْ نَفْسِي مَا يُخَلِّصُهَا”.
هناك كتب رائعة تتحدث عن جهاد النفس؛ منها باب جهاد النفس في كتاب وسائل الشيعة، وسماحة المرجع المدرسي (حفظه الله) لديه كتاب بذات الاسم، وهو بحث الخارج ـ ايضا ـ في كتاب جهاد النفس في الوسائل، وهو كتاب جدير بالاطلاع. فالإنسان لا بد له من الاطلاع على مثل هذه الكتب، حتى يعرف ما يجب عمله تجاه نفسه.
- لا إفرط ولا تفريط
بعض الذين يدخلون في هذا المجال ـ جهاد النفس ـ يقعون في مشكلة أخرى، وهي الصوفية، فيريدون اعتزال الدنيا، لكن الإمام السجاد عليه السلام، قال بعد تلك الفقرة: “وَأَبْقِ لِنَفْسِي مِنْ نَفْسِي مَا يُصْلِحُهَا”، فلا بأس بمقدار صلاح النفس، لان الله ـ تعالى ـ يقول: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ}. ويقول ـ تعالى ـ: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}.
ولذا لابد للإنسان من توازن، فمن يطهر نفسه، وينشغل بالعبادات والطاعات، لابد له من الحذر من الوقوع في مشكلة أخرى ـ الصوفية ــ، فيحرم على نفسه ما احل الله، وهذا ما لا يجوز شرعا.
اتصل بي أحدهم؛ وقال: انني حرمت نفسي من اللحم لمدة اربعين يوما، لكن لم اجد تلك الفائدة التي رجوتها!
فقلت له: هذا الطريق الذي تسلكه خطأ، ولذلك من المكروه أن لا يأكل الإنسان اللحم خلال اربعين يوما. فالوصول الى الله ـ تعالى ـ لا يكون بالكيفية التي يريدها الإنسان، بل بالطريق التي رسمها الله لعباده.
وهنا لابد من سؤال: لماذا اهتمت الآيات والروايات بالتركيز والتأكيد على جهاد النفس، أكثر من جانب الاهتمام بالدنيا؟ وإذا لاحظنا فإن الآيات التي تحذر الناس وتنبههم، أكثر من الآيات التي تحثهم على طلب الدنيا؟
- لو أخذتي الدنيا لكنت في خبر كان!
في أحدى المرات كنتُ في مجلس ملبورن في استراليا، وبعد انتهاء المجلس كانت هناك لقاءات مع الشباب، وكان بين هؤلاء الشباب، كردي فيلي، وكان متميزا عنهم، فإذا اردت ان استشهد بآية او رواية او قصة، كان هو يكملها، فتعجبت منه! وفي احدى الجلسات اوصيتهم بقراءة كتاب الاحتجاج، فذهب ذلك الشاب وقرأه ثم جاءني اليوم التالي؛ وقال: احسنتم سيدنا، كان كاتبا رائعا، وعدّد لي بعضا من رواياته.
فقلت له: ما هي قصتك؛ فهكذا مكان لا يليق بك!
فقال: سيدنا اتيتُ مهاجرا على متن قارب، وقطعت هذه البحار والمحيطات وحيدا، ووصلت الى هنا، فرأيت الدنيا، وكل شيء جميل، ومتوفر، فما تريده في متناول اليد.
الدنيا سوق ربح فيها قوم وخسر آخرون”، فالذي ربح في هذا السوق هو الذي كانت تجارته مع الله ـ تعالى ـ، أما الذي كانت تجارته مع غير الله فقد يربح وقد يخسر
وفي لحظة من اللحظات التفت الى نفسي وقلت: إذا نظرت الى الدنيا فستجرني، فلا أب يراقبني، ولا شيء يوقفني، فرأيت ان هذا المكان هو مكان الاعراض عن الدنيا، لا مكان الاقبال اليها.
يضيف: من الصباح اخرج الى العمل، وابقى حتى الغروب، وفي الليل اعود الى الراحة، واقرأ القرآن الكريم، والروايات وبعض الكتب، ومنذ سنوات امضيت على هذا المنوال.
البشر بطبعه يميل الى الدنيا، وهي ـ الدنيا متزينة ـ للناس، والشيطان ـ ايضا ـ يزينها أكثر، فإذا التفت الإنسان إليها اخذته، ولهذا جاءت الآيات والروايات تحذر الإنسان من التوغل في الدنيا. “اللَّهُمَّ خُذْ لِنَفْسِكَ مِنْ نَفْسِي مَا يُخَلِّصُهَا، وَأَبْقِ لِنَفْسِي مِنْ نَفْسِي مَا يُصْلِحُهَا، فَإِنَّ نَفْسِي هَالِكَةٌ أَوْ تَعْصِمَهَا”، فإذا الله لم يعصم هذه النفس فإن مصيرها الهلاك.