حدیث الناس

هل نتخلص من الفساد بدون قيادة واضحة؟

تشهد تجارب الثورات والانتفاضات في العالم بأن نجاحها كان مديناً للقائد المتوفر فيه شروط الصلاح، والنزاهة، والاخلاص، فوجود القائد يمثل بارقة أمل أولى للجماهير بأن تكون على طريق التغيير إو الإصلاح والخلاص من أزماتها ومشاكلها.

وربما يعتقد البعض في العراق أن أزماته ومشاكله من النوع النادر لا وجود له في العالم! وعليه؛ فان حلّ المشاكل يكون بمنط خاص واستثنائي، بينما الرؤية الموضوعية لما يجري في العراق يبعده عن هذه الصورة السوداوية المفتوحة على كل الاحتمالات السيئة، وعلى الطرق المغلقة والمتعرجة.

حتى مشكلة “التسييس” في العراق، تمثل الفزاعة فارغة المحتوى أمام دعاة التغيير الحقيقي، فالخوف من سقوط الحراك الجماهيري في قبضة أحزاب او تيارات سياسية، يمثل مبرراً لدى البعض لتكريس ثقافة “اللاقيادة” في أي حراك جماهيري، بدعوى توفير صك الضمان لنزاهة هذا الحراك وأنه جماهيري بحت، ومن صميم الواقع وما يحمله من مطالبات، و ان “الجماهير هي التي القائد”.

بيد أن هذا الخيار بحد ذاته يمثل فشلاً لاصحابه في عدم القدرة على ايجاد البديل السياسي للفاسدين، و إبقاء الساحة للفاسدين لأن يقدموا انفسهم بأن “الساسة” لا غيرهم، وهم من يديروا الاوضاع الاقتصادية والامنية والخدمية بشكل عملي بعيداً عن الشعارات والضجيج، وهو ما يجعل الحراك الجماهيري كما لو أنه دوران في حلقة مفرغة لا طائل من ورائها.

بنفس المقدار الذي يخشى الشباب المنتفض في العراق من اختطاف حماسته وشعاراته التي لا يختلف عليها اثنان، فان عامة الناس الذين يعيشون ضنك العيش والضغوطات في كل شيء، يجدون في عدم وجود قيادة واضحة لحركتهم لتغيير واقعهم، أخطر وأصعب من الواقع السيئ الذي يعيشونه، “فالناس لابد لهم من أمير برٌ أو فاجر”، لسبب بسيط جداً؛ فهم يفهمون هذا الواقع السيئ ويتعاملون معه بكل حواسهم ومشاعرهم، ولكن ماذا عن الشيء الذي لا يلمسونه، ولا يجدون له أثر امامهم؟

ثلاث فوائد يرجوها الناس من وجود القائد والرجل المحور لأي حراك نحو التغيير:

  • الفائدة الاولى: تجنب الفوضى

فمن الواضح أن سوء الاوضاع وتفاقم سلبيات واخفاقات الدولة، تثير في النفوس، لاسيما الشباب، روح الصدام والمواجهة العنيفة كرد فعل لما يعيشوه من معاناة جمّة، فاذا وجدت القيادة الواضحة، بالامكان استيعاب كل المشاعر الغاضبة و ردود الفعل المختلفة باختلاف الافراد في نوع تربيتهم وثقافتهم، ثم تأطيرها بضوابط معينة تخدم الحركة الاحتجاجية، وتضمن لها النجاح في الضغط على الحكومة وتحقيق مطالبها.

وفي هذه النقطة تحديداً ثمة التفاتة هامة؛ فان الحكومة والنظام السياسي الذي يجد أمامه حركة احتجاج منظمة ومؤطرة بضوابط في شعاراتها وطريقة تحركها في الشارع، فانه يستشعر الخطر أكثر من أي تظاهرة احتجاجية تنطلق منها الزجاجات الحارقة، وشعارات الشتم والاقصاء، لان هذا هو ما ينتظره الفاسدون ليركبوا التهم الجاهزة بتسييس التظاهرة من هذه الجهة او تلك، مهما كانت حقانية التظاهرة والاحتجاج، بل وتكون السلطات الحاكمة أمام عامة الناس في موقف المحافظ على الامن والاستقرار والحفاظ على الممتلكات العامة ومصالح الناس!

  • الفائدة الثانية: مد جسور العلاقة مع الجماهير

القيادة التي تتصدى لقضية كبيرة وعادلة مثل محاربة الفساد، والمحاصصة، والتوزيع غير العادل للثروة، تمثل ضمير كل فرد في المجتمع، فهو يمتدّ حتى الى بيوت الفاسدين، ويؤثر على ابنائهم وعوائلهم والمقربين منهم، فهو يتكلم عن الحاضر والمستقبل، وما يهمّ الجميع، ولعل أروع شاهد على ما نذهب اليه؛ قصة زوجة الملك الايراني الذي منح حق استثمار التبغ الايراني لشركة بريطانية في نهاية القرن التاسع عشر، وعندما أفتى المرجع الديني الأعلى في زمانه، السيد ميرزا محمد حسن الشيرازي من مدينة سامراء، بحرمة استخدام التبغ المنتج بريطانياً، امتنعت هذه المرأة عن تقديم الارجيلة الى الشاه، وقالت: “انه حرام”، وعندما سأل عمن حرّمه قالت: “الذي حللني عليك”!

إن القائد الذي يُحسن الدور الأبوي في تعامله مع الجماهير، يكون محط ثقتهم واطمئنانهم، والأهم من هذا؛ الصدر الرحب لشكواهم ومعاناتهم، بل وحتى وجهات نظرهم، وانتقاداتهم، مهما كانت لاذعة، لانها تعكس الواقع الذي يعيشه الجميع، بمن فيهم القائد نفسه.

  • الفائدة الثالثة: الخطاب الواحد أمام السلطة

سواءً كان الحراك الجماهيري ضد سلطات احتلال، او جهات اجنبية، او كانت ضد سلطات ديكتاتورية فاسدة، فان الخطاب الواحد من قيادة واحدة له بالغ الأثر في تحقيق النجاح، واستعادة الجماهير حقوقها، وكذا الحال على الصعيد الدولي في وسائل الاعلام، وفي المحافل الدولية والمنظمات الحقوقية العالمية، تكون مادة الخبر عن الحراك الجماهيري متضمنة عنصر “من”؟ ضمن العناصر الخمسة للخبر، وهي الجماهير مع قيادتها الشرعية المنبثقة منها، وهي نقطة قوة امام الرأي العام الدولي بأن ثمة حراك منظم مستوفي شروط الانتصار ينتظر المساندة والتضامن، ونزع الشرعية من السلطات الحاكمة او الضغط عليها باتجاه الإصلاح او التغيير الشامل.

إن ما يشعر به البعض من احتمال سقوط قيادة الحراك في منزلق المصالح الخاصة، والتوجهات الايديولوجية او الفئوية، او الارتباط بالجهات الخارجية، او أية مخاوف اخرى، تمثل خطوة الى الخلف في ساحة المواجهة مع الفساد في بلد مثل العراق، حيث تحول الفساد فيه الى حالة وسلوك تنظمه جهات في الداخل والخارج، فيحتاج الامر ما هو أقوى من الفساد ومن يتبناه كمنهج في حياته.

وختاماً؛ فان القيادة ليست بالضرورة في رجل واحد، كما كان غاندي الهند، او مانديلا افريقيا، او اشباههما، إنما بالامكان وجود هيئات او مجالس يجتمع فيها وجهاء البلد من المسموعة كلمتهم، والمؤثرة افكارهم و رؤاهم، فتكون استشارية، وربما تكون أقرب الى النجاح والخلاص مما نعيشه.

عن المؤلف

محمد علي جواد تقي

اترك تعليقا