مع بالغ الأسف يجبرني القول أننا ـ ربما- في قادم الأيام علينا الحديث عن “وزارة التعليم الالكتروني”، بدلاً من وزارة التربية والتعليم عندما يكون الإصرار على إلغاء الدراسة الحضورية بذريعة العدوى وتفادي انتشار كورونا بين التلاميذ.
أخصّ بالذكر؛ التلاميذ الصغار، من الاول الابتدائي وحتى السادس، وهم في أهم مرحلة عمرية يلتقي فيها النضوج العقلي والبدني والنفسي، فهو في الوقت الذي يتوقع الاهتمام المباشر به، وباليد التي تحنو عليه، وكلمات التشجيع والثناء على نجاحه وتفوقه، فهو يتوقع أن يكون بين جدران مدرسته، وهي البيت التربوي والتعليمي الثاني، كما عرفناه منذ عقود طويلة.
وما أشجى في النفس من رؤية التلاميذ الصغار (بنين وبنات) وهم يهرعون الى مدارسهم تلبية لدعوة وزارة التربية بالحضور الى المدارس ولو ليومين في الاسبوع، ليستشعروا حرارة العلاقة مع المعلم، والتواصل مع الزملاء الآخرين، وقد مُلئنا حزناً وأسفاً على أيام السنة الماضية عندما كان التلاميذ يأتون الى مدارسهم ويجدون الابواب مغلقة بوجوههم في فترة الاحتجاجات ضد الحكومة بدعوى تحاشي الاصطدام مع البعض ممن وجد استمرار فتح المدارس وانسيابية التعليم، من المدرسة وحتى الجامعة ما يتقاطع مع مصالحهم! وبعد عام الاحتجاجات والتظاهرات، جاء عام “كورونا” ليكرس في نفوس التلاميذ وعموم المجتمع اليأس بمستقبل واعد للتعليم.
التربية والتعليم في جميع دول العالم من المرافق الحيوية والحساسة جداً، يُحسب لها ألف حساب، وتعمل الانظمة السياسية ما بوسعها لإبعاد أي أزمة او تصدعات سياسية او اقتصادية عن هذا القطاع
التربية والتعليم في جميع دول العالم من المرافق الحيوية والحساسة جداً، يُحسب لها ألف حساب، وتعمل الانظمة السياسية ما بوسعها لإبعاد أي أزمة او تصدعات سياسية او اقتصادية عن هذا القطاع لان مستقبل البلد قائم على التلاميذ الصغار في المدرسة الابتدائية عندما يتحولون الى وزراء وضباط كبار في الجيش وقضاة وعلماء في الطب والهندسة والفضاء والبيئة وتكنولوجيا المعلومات.
وفي العراق من حقنا ان نتوقع ما يناسب ظروفنا ومقدراتنا الحالية من الاهتمام بالتربية والتعليم وعدم غلق ابواب المدارس كلياً بوجه التلاميذ بذريعة التطبع على التعليم الالكتروني كما هو معمول به في الدول المتقدمة، وربما لا يجهل من يتحدث بهذا الشكل طبيعة الحياة والعلاقة بين المواطن والنظام السياسي في تلك الدول المتقدمة، وكيف هو أداء الحكومات هناك، وهل هي على شاكلة حكوماتنا؟
التلميذ العراقي يحتاج نظام تعليمي صارم يحمله مسؤولية مستقبله ومسقبل بلده ومجتمعه، فالقضية ليست اختيارية وبالمزاج كما يتصور البعض، انما هي قضية مصيرية، ففي الاعوام الماضية كنّا نعاني المشاكل الجمّة من سوء العلاقة بين الطالب والكادر التدريسي والمدرسة بشكل عام، وكانت الافكار المقترحات باتجاه ترميم هذه العلاقة وتطويرها وحل تلكم المشاكل لتأخذ المدرسة دورها الحقيقي، فكيف اليوم والطالب يجلس في بيته ويتلقى الدروس الكترونياً، فهو لا يرى المعلم ولا المدرس إلا من خلال جهاز الموبايل او الاجهزة اللوحية، فهل هذا حلٌ جديد لتعزيز العلاقة بين الطالب والمعلم؟!
مدرسٌ في اعدادية تضم 167 طالب، يتحدث عن حضور خمسين طالباً فقط، وهذا بعد مرور عدة اسابيع على اعلان الدوام الحضوري ليومين في الاسبوع، وإلا في البداية كان يدخل الصف ويرى أمامه 15 طالباً من أصل حوالي اربعين طالباً!
أما عن التعليم الالكتروني فان هذا المدرس في القسم الأدبي، والذي يبذل جهوداً جبارة ومميزة في الشرح والتوضيح عبر منصات التواصل الاجتماعي، جرب البثّ المباشر على أمل تحفيز الطلاب للمشاركة الحيّة، فكان الحضور 32طالباً فقط من مدرسة اعدادية!
هؤلاء طلاب اعدادية مرشحون لدخول الجامعة، فما بالنا بالتلاميذ الصغار الذين بالكاد يتعلمون يقرأون ويكتبون، بأيّ روحية واندفاع يشاركون ويتفاعلون مع التعليم الالكتروني؟
التلميذ العراقي يحتاج نظام تعليمي صارم يحمله مسؤولية مستقبله ومسقبل بلده ومجتمعه، فالقضية ليست اختيارية وبالمزاج كما يتصور البعض، انما هي قضية مصيرية
إن إلقاء التلاميذ والطلاب في دهاليز التعليم الالكتروني يعني تمهيد الأرضية بشكل غير مباشر “للأمية المقنعة”، فالتسرّب من الدراسة أول النتائج، وضياع جهود غالية بذلت في السنوات الماضية لتقليل النسبة بافتتاح مراكز لمحو الأمية بلغت 20الف مركز في العراق، وتراجع نسبة الأمية الى 13% بين الذكور، والى 18%بين الاناث، مع تحذير الجهاز المركزي للإحصاء العام الماضي بوجود خمسة ملايين أميّ في العراق، الامر الذي يدعو المعنيين في الدولة العراقية للتفكير الجدّي والمسؤول في هذه القضية الحساسة والحيوية وعدم تركها للقرارات الشخصية لافراد المجتمع، على أن “التعليم رغبة شخصية واهتمام من أولياء الأمور”، وهذا صحيح من وجه، والصحيح ايضاً ترغيب المواطن على التعليم والتأكيد على دوره الأساس في حياته الشخصية وحياة المجتمع.
فالانسان الأميّ في المجتمع لا يعيش لوحده، إنما هو أب وأم، وعامل، وفلاح، وكاسب، بمقدار أميّته وابتعاده عن العلم والمعرفة يكون مشاركاً في تأخر البلد وجعله استهلاكياً أمام البضائع الاجنبية، ويكون عمله استلام الراتب ثم انفاقه على المأكل والمشرب والملبس، ثم بعض التنزّه والاستمتاع بالواحات الخضراء برفقة “الاركيلة” والشاي! هذا من الناحية الاقتصادية، أما من الناحية السياسية، فانه سيكون أبعد ما يكون عن المشاركة الحقيقية والمؤثرة في الحكم واتخاذ القرارات المتعلقة بمصيره وحياته، فهو لا يمتلك القوة المعنوية التي تردع تجار السياسة من التلاعب بالعقول ورسم مستقبل وهمي مسعول للناس. أما من الناحية التربوية فان المآل أخطر بكثير مما سبق، لان الانسان الأمي سيجد أن المؤسسات الاعلامية والثقافية العالمية قد ابتلعته مع افراد عائلته وغيرت قناعاته وعقائده، وحتى سلوكه وطريقة تفكيره من خلال ما تبثه بعض القنوات الفضائية، و بعض مواقع التواصل الاجتماعي التي تجده صفحة بيضاء تكتب عليها ما تريد.