- مقدمة
الدِّين في هذه الحياة له رسالة اجتماعية، وذلك لأنه متوجه أصلاً وأساساً للمجتمع من أجل إصلاحه، وبناء الأسر الصالحة والأفراد الأتقياء فيه، ولا دين ولا رسالة إصلاحية سماوية كانت أو أرضية، إلا ولها هدف في المجتمع إما مشروع إلهي، أو سياسي له أهدافه الموجه لاستثمارها في ذلك المجتمع التي ستتوجه إليه.
-
المجتمع الإسلامي
هو ذلك المجتمع التقي الذي يهدف إليه الدين الإسلامي الحنيف في كل تشريعاته وتوجيهاته الاجتماعية، والتي توجهت أول ما توجهت إلى مجتمع المدينة المنورة حين انتقل إليها رسول الله، صلى الله عليه وآله، مهاجراً برسالته التي أنزلها الله إليه ليخرج الناس من الظلمات إلى النور كما في قوله تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}. (البقرة: 257).
فكانت رسالة الإسلام هي رسالة النور، وهي رسالة القرآن الكريم الذي أنزله الله على رسوله العظيم ليخرج العرب من الجهل إلى العلم، ومن الجاهلية إلى المدنية والحضارة الراقية ولكنهم لم يقبلوا وأصروا على عنادهم وعبادة أصنامهم وأحجارهم، وحاربوا رسول الله، صلى الله عليه وآله، ورسالته الإصلاحية بكل ما أوتوا من قوة ومال ورجال، فمارس طغاتها وجبابرتها كل أنواع الظلم والطغيان على المسلمين الأوائل حتى استشهد بعضهم تحت سياط التعذيب كياسر وزوجته سمية والدا عمار بن ياسر رضوان الله عليهم جميعاً.
ولكن ما أن انتقل رسول الله، صلى الله عليه وآله، وما تبقى من المسلمين إلى مدينة يثرب بدعوة من أهلها بعد بيعتهم لرسول الله، وأمير المؤمنين، عليه السلام، في العقبة الأولى والثانية، وفقد رسول الله، في شهر رمضان داعمه وحافظه وحاميه أبو طالب، عليه السلام، وزوجته ومؤنسته السيدة خديجة فأعلنا عليهما عاماً للحزن، لهول المصيبة بهما، وبذلك جاءه الأمر بالهجرة من أرض العبادة مكة المكرمة، إلى أرض الهجرة في المدينة المنوَّرة، فوضع فدائي الإسلام الأول وفتاه الأكمل، وصنوه ووصيه وابن عمه علي بن أبي طالب، عليه السلام، في فراشه وذهب إلى الغار مهاجراً.
-
بناء المجتمع الإيماني في المدينة
وصل النبي، صلى الله عليه وآله، إلى يثرب ورفض الدخول إليها إلى أن لحق به وصيه بالفواطم، فدخلوا جميعاً وما أن بركت الناقة على باب أبي أيوب حتى راح رسول الله، صلى الله عليه وآله، يشرع في بناء القواعد الحضارية للمجتمع الإسلامي هناك ومن تلك القواعد الأساسية:
- الأخوة الإيمانية: حيث آخا بين المهاجرين والأنصار واتخذ علياً، عليه السلام، أخاً له.
- بناء المسجد: ليكون هو مقر القيادة السياسية والاجتماعية وحتى العسكرية.
- عقد معاهدة: وهي أول معاهدة للعيش المشترك في التاريخ بين كل سكان المدينة.
- تبليغ الواجبات والأحكام الشرعية: (الحلال والحرام) لبناء المجتمع وتربيته عليها، ويكون بذلك ينفي العادات والتقاليد الجاهلية، ويُرسي القواعد الإسلامية الراسخة في المجتمع.
لما أراد الإمام، علي، عليه السلام، أن يًعيد ويرد الأموال والقطايع التي وزعها عثمان على بني أبيه من الأمويين، خرج عليه معاوية وبني أمية وحزَّبوا الأحزاب وحاربوه في معركة صفين
وفي كل تلك الخطوات كان أمير المؤمنين وسيد الوصيين الإمام علي، عليه السلام، هو الشخص والشخصية الثانية في المجتمع الإسلامي الجديد حتى قالوا عنه: “كنا ننظر إلى أهل البيت (علي وفاطمة والحسن والحسين) في عهد رسول الله كما النجم في السماء”، لأنهم أهل البيت، عليه السلام، لا يُقاس بهم أحد من الخلق، فهم سادة الأمة وقادة المجتمع الإسلامي في حياته وتفاصيلها، فكانوا إذا لزمهم شيء ولم يستطيعوا الوصول إلى رسول الله، صلى الله عليه وآله، فكان الإمام علي، عليه السلام، هو المسؤول من الرجل، والسيدة فاطمة، عليها السلام، هي منهل النساء ومرجعهم في مسائل الحلال والحرام.
-
رسالة الإمام علي عليه السلام الاجتماعية
وبعد انتقال رسول الله، صلى الله عليه وآله، إلى الرفيق الأعلى وانقلاب الأمة على الأعقاب بقيادة قريش التي تصدَّت للقيادة السياسية بعد سقيفة بني ساعدة الكارثية، وأقصت الثقل الأصغر (العترة الطاهرة) من الحياة الثقافية والسياسية للأمة الإسلامية، وهي قريبة عهد بالجاهلية، وهي جاهلة بتفاصيل القرآن الكريم – الثقل الكبر – لأنهم شغلهم الصفق في السواق كما يقول كبيرهم يوماً.
فجلس الإمام علي، عليه السلام، حبيس بيته ربع قرن من الزمن بعد أن صادروا جميع أملاكه، حتى شبَّ جيل من الأمة لا يعرف من الإسلام إلا الشيء الذي يرونه من الخلفاء والحكام، ولذا عندما جاؤوا إليه ساعين وداعين لتسلم زمام الحُكم والخلافة فرفض لعلمه بانحرافهم، وتغيير الكثير من العادات والتقاليد الاجتماعية وقال لهم: “دعوني والتمسوا غيري فغني لكم وزير خير مني أمير“، فلم يقبلوا إلا أن يُبايعوا له فكانت بيعته عامة وإجماعية وفي المسجد النبوي الشريف.
فلما قام وأراد أن يوَّزع العطاء على أفراد الأمة بالعدل والتساوي فجاء طلحة والزبير فلما أعطاهما كما أعطى للعبيد والأرقاء والفقراء والبسطاء من المسلمين رفضوا العطاء لأن عمر وعثمان كانوا يعطوهم أكثر من ذلك بكثير، لأن عثمان كان يقول عن طلحة: “ويلي لابن الصعبة أعطيته كذا بهاراً (جلد ثور) من الذهب وهو يريد دمي وقتلي”، والإمام علي، عليه السلام، لا يُعطي إلا كما يأخذ هو من العطاء فالكل سواء في العطاء ولو كان المال ماله لسوَّى بينهم فكيف والمال مالهم؟ فخرجا عليه وأخذا أمهما وذهبا إلى البصرة وأعلنا الحرب على الإمام علي، وحارباه في معركة الجمل.
ولما أراد أن يًعيد ويرد الأموال والقطايع التي وزعها عثمان على بني أبيه من الأمويين، خرج عليه معاوية وبني أمية وحزَّبوا الأحزاب وحاربوه في معركة صفين.
ولم تنته معركة صفين إلا بالمكيدة التي اصطنعها عمرو بن العاص برفع المصاحف، فوقعت الفتنة التي خطط لها مع وجوه النحس من أعيان النواصب كعرف النار الأشعث بن قيس، وأمثاله ممَّن أخذوا الرشوة من معاوية على أن يوقفوا الحرب، ولكن ما وقفت إلا بعشرين ألف سيف مجردة على الأكتاف جاؤوا إلى أمير المؤمنين، عليه السلام، ينادونه باسمه ويقولون له: “أوقف الحرب واحتكم إلى القرآن وإلا قتلناك كما قتلنا عثمان”، فأمر مالك الأشتر وبقية القوات بوقف الحرب وقد وصل إلى فسطاط معاوية وطعنه برمحه.
فخرجت عليه الخوارج وحاربهم في (معركة النهروان)، ولكن لم ينتهوا حتى تآمروا وقتلوا أمير المؤمنين الإمام علي في ليلة القدر، من شهر رمضان المبارك في عام 40 من الهجرة.
-
إصلاح الإمام علي عليه السلام الاجتماعي
الإمام علي، عليه السلام أراد منذ اليوم الأول أن يُصلح المجتمع الإسلامي ويُعيده إلى سيرة وسنة رسول الله، صلى الله عليه وآله، الذي خرج عنها في كثير من السُّنن الاجتماعية، ولكن كان الطريق أمامه صعباً وربما مستصعباً، لأنه كان الناس قد ألفوا تلك العادات وصارت من صلب عقائدهم كصلاة التراويح، والأذان، والتكتف في الصلاة، والغسل في الوضوء، فلما أراد أن يُصلحها قاموا من كل جانب من المسجد وهم يصرخون ويصيحون: وا سنة عمراه، ووا عمراه.
الإمام علي، عليه السلام أراد منذ اليوم الأول أن يُصلح المجتمع الإسلامي ويُعيده إلى سيرة وسنة رسول الله، صلى الله عليه وآله، الذي خرج عنها في كثير من السُّنن الاجتماعية
والتجربة الاجتماعية في طول التاريخ الإنساني هي أصعب أنواع التغيير لا سيما إذا كان يمثل ديناً أو عقيدة، في المجتمع، ومجتمع الإمام علي، عليه السلام، الذي ضحى بكل شيء في سبيل بقاء الدين الإسلامي، والمحافظة على المجتمع وبيضة الإسلام قوية منيعة في وجه أعدائها، وكان يقول: “لأسالمن ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن بها جوراً إلا عليَّ خاصة“.
فمن اليوم الأول الذي بايعته الأمة صعد على المنبر وأعلن برنامجه الإصلاحي وكان فيما رده على المسلمين من قطائع عثمان، بقوله: “وَاللَّهِ لَوْ وَجَدْتُهُ قَدْ تُزُوِّجَ بِهِ النِّسَاءُ، وَمُلِكَ بِهِ الْإِمَاءُ لَرَدَدْتُهُ، فَإِنَّ فِي الْعَدْلِ سَعَةً، وَمَنْ ضَاقَ عَلَيْهِ الْعَدْلُ فَالْجَوْرُ عَلَيْهِ أَضْيَقُ“، فسيرته العدل في الحكم، والقسط في المجتمع والحق رائده، في كل حياته، بل هو مع الحق والحق معه، عليه السلام.
فالمتتبع لسيرة ومسيرة الإمام علي، عليه السلام، في فترة حكمه التي امتدت خمس سنوات قضاها في الحروب الثلاثة، والتحضير لها كان حربه الشعواء في المجتمع الذي انحرف عن جادة الحق والصواب فأراد أن يُعيده إليها بكل ما أوتي من قوة، وحكمة، وحنكة، وعدالة، فحارب الفقر، والجهل، والتخلف، والعصبية الجاهلية، مما أدى إلى شهادته المفجعة على أيدي الخوارج أجهل خلق الله في مثل هذا الأيام الرمضانية المباركة، ففجعونا جميعاً بأمير المؤمنين، عليه السلام.
عظم الله أجركم يا موالين، بالإمام علي، عليه السلام.