الامام زين العابدين في دعائه (مكارم الأخلاق) عبّر عن الجمع بتعبيرين: مرة قال: ” وَضَمِّ أَهْلِ الْفُرْقَةِ”، و مرةً قال: “وَإِصْلاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ”، فما الفرق بين التعبيرين؟
بعض العلماء قالوا: لا فرق بينهما، بيد أن “ضم أهل الفُرقة” أعمّ، و “إصلاح ذات البين أخصّ”، وهذا يعني؛ حل الخلافات الزوجية، او بين افراد الأسرة، أما اذا كان الخلاف على نطاق أوسع في المجتمع، كأن يكون بين الاصدقاء، او بين العشائر، وسائر الجماعات، فهذا يطلق عليه؛ ” وَضَمِّ أَهْلِ الْفُرْقَةِ”، ولكن؛ باعتقادي، هذا التفسير بعيد المعنى الحقيقي.
إن مُراد “وَضَمِّ أَهْلِ الْفُرْقَةِ” يختلف كثيراً عن مفهوم “وَإِصْلاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ”، فالاول لا يعني السعي لتوحيد المسلمين، او الانسجام بين الناس، وعلى القول المشهور: “كثرة الوفاق من النفاق”، فالامام، عليه السلام، لا يدعو الى جمع الناس المختلفين، على أن الجميع طيبون تحت راية واحدة.
ثم إن القرآن الكريم يشير الى حقيقة الاختلاف والتنوع في البشرية: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمْ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}، بمعنى؛ أن الناس في بداية التكوين والتكاثر كانوا على مذهب و توجه واحد، ثم تفرقوا بسبب وجود الانبياء الحاملين لرسالات السماء، فظهر المؤمن بهذه الرسالات، كما ظهر الكافر، كذلك الحال بالنسبة لقبيلة قريش في مكة، فقد كانت واحدة ومتماسكة ـ من حيث الظاهر-، ولكن عندما بُعث النبي الأكرم من قبل السماء، وآمن به جمعٌ من هذه القبيلة حصل الاختلاف بينهم، فصارت هذه القبيلة من ألدّ اعدائه، وهو منهم.
إذن؛ “ضَمِّ أَهْلِ الْفُرْقَةِ ” يذهب الى كسب شخصٍ ما الى صفّ الحق والفضيل بعد أن كان في الطريق الخاطئ، كما لو أن الامام السجاد، عليه السلام، يريد القول: أن من الصفات التي تزيّن المتقين؛ سعيه وعمله لهداية الناس، ولا يدع الآخرين يخوضون في الباطل والتوجهات الخاطئة.
أحد الاشخاص قال لي ذات مرة: لماذا عندكم همّ التبشير لمذهب أهل البيت، عليهم السلام؟
قلت له: بل هذا العمل يبدو من الواجبات اخلاقياً، فاذا كان لديك صديق أميّ (لا يعرف القراءة والكتابة)، هل تتركه وشأنه، أم تساعده على تجاوز هذه الحالة السلبية، وتُحسن اليه وتخدمه بإعطائه شيء يفقده؟
كذلك الحال بالنسبة لطريق ومنهج أهل بيت رسول الله، صلى الله عليه وآله، علينا الالتفات الى مسؤوليتنا في هذا المجال.
صحيح أن الاختلاف والتنوع أمر طبيعي بين البشر، ولكن؛ لا يعني هذا ان نتفق مع حزب الشيطان، وهذا بحثٌ مفصّل، ارجو التوفيق لأن نبحث في موضوع “الفراق والوصل”، مع من نتصل؟ ومع من نفترق؟
وإلا لماذا رفضت الصديقة الزهراء، سلام الله عليها، اعتذار الشخصين لها مما ارتكباه بحقها من ظلم؟ فبعد أن ذكرتهما بحديث رسول الله، صلى الله عليه وآله، في حقها، وأن “من آذاها فقد آذاني”، وصدقوها فيه، قالت: “اللهم اشهد انهما آذاني”. الاساس الذي انطلقت منه الصديقة الزهراء في افتراقها عن هؤلاء هو العقيدة، أما اذا كان محور الاختلاف؛ المال، فهذا لا يكون سبباً.
وفي دعاء استقبال شهر رمضان المبارك، للإمام السجاد، عليه السلام، عبارات جميلة” “وَأَنْ نُسَـالِمَ مَنْ عَادَانَا حَاشَا مَنْ عُودِيَ فِيْكَ وَلَكَ ، فَإنَّهُ الْعَدُوُّ الَّذِي لاَ نُوالِيهِ ، وَالحِزْبُ الَّذِي لاَ نُصَافِيهِ“، هكذا جماعات واشخاص لا نتفق معهم، إلا ببعض المشتركات.
“وَإِصْلاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ”
وهي ذات أبعاد واسعة، وغاية في الاهمية والحساسية، حتى أن أمير المؤمنين، عليه السلام، في وصيته الى ولديه الحسن والحسين، عليهما السلام: “…ومن بلغه كتابي هذا، أوصيكم بتقوى الله ونظم أمركم وإصلاح ذات بينكم، فاني قد سمعت جدكما رسول الله يقول: صلاح ذات البيت افضل من عامة الصلاة والصيام”، وهذا في داخل الدائرة الايمانية، حيث ينبغي الإصلاح في العلاقات بين المؤمنين.
هذا الاهتمام البالغ بهذه القيمة الاخلاقية لمواجهة كيد ومساعي الشيطان الذي يبذل جهده {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ}، بالمقابل؛ على المؤمن ان يكون مصلحاً، علماً أن هذه المهمة ليست بالسهلة واليسيرة، فهي تكلف المصلح جهداً جباراً، بل وخسائر وتكاليف باهضة، نفسياً ومادياً، لانه سيكون في الوسط بين مختلفين ومتخاصمين، وهذا ما نلاحظه في الوساطات بين الزوجين، او بين الارحام، و أشدّ من هذا؛ بين الجماعات الكبيرة، مثل العشائر وغيرها، وفي الحديث الشريف: “ما زال ابليس فرحاً، ما اهتجر المسلمان فاذا التقيا اصطكتا ركبة الشيطان وتقطعت أوصاله”، واحياناً يفترق الصديقان في الله وفي أمور كبرى، أما هنا فالافتراق لامور دنيوية، وهذا ما يجب إصلاحه قطعاً.
ومن نافلة القول: أن الكذب أصبح مطلوباً ومباحاً في مثل هكذا حالات، رغم أن الكذب من القبائح والرذائل المعروفة، حتى أن النبي الاكرم يقول في حديث له بأن المؤمن قد يزني، وقد يسرق، ولكن لا يكذب! مع كل هذه الحرمة، فانه اذا صار وسيلة لإصلاح ذات البين يكون جائز، “الكذب في الإصلاح صدقٌ عند الله”، فربما يحتاج الأمر الى الكذب بالقول الحسن عن شخص هو ليس فيه بغية ترميم الصدع وإعادة اللحمة الى العلاقات الاجتماعية، كما يحتاج الأمر الى شيء من الذكاء والحنكة لنزع فتيل النزاعات الاجتماعية التي معظم منشئها أمور تافهة وبسيطة وتحتاج الى وساطة ذكية تزيل اللبس والغموض وسوء الفهم من هذا وذاك.
ولعظمة هذه القيمة في الاسلام، نحتاج الى مؤسسات مختصة بإصلاح ذات البين، كما لدينا مؤسسات عبادية بعنوان “المسجد”، و مؤسسات للعزاء على الامام الحسين، عليه السلام، بعنوان “الحسينية”.