كان الحديث في المقالة الثانية عن بعض جوانب الضغط النفسي والصحة النفسية، وما يعاني منه كُثر من الناس في مجتمعنا، خصوصا عندما تزداد عليهم اعباء المسؤولية كالآباء والامهات، وذُكر فيها بعض طرق التعامل الناجحة والبسيطة التي طرحها علم النفس.
في هذه المقالة، أود تسليط الضوء على واحدة من المشاكل التي تسببت في ترك ضرر بالغ على الكثير من عوائلنا، ما ينتج مضاعفات ومشاكل متراكمة قد يغفل عنها اكثرنا، ويغفل أيضا عن الضرر الذي تسببه في حالة تجاهلنا لهذه المشاكل، و اذكر هنا بعض النصائح البسيطة، والتي قد تكون غير كافية لجميع الحالات، لحاجة الموضوع الى اصحاب الاختصاص ليتعاملوا مع كل حالة بشكل فردي وما تحويه من خصوصية؛ فهدفي الاول من ذكر الموضوع هو تسليط الضوء على لزوم الاهتمام بهذه المشكلة وعدم اهمالها، و اعطائها الاولوية التي تستحقها.
-
معالجة اسباب نشوء عدم الثقة
الثقة بالابوين حاجة اساسية لكل طفل ومراهق، وفقدانها يترك على الطرفين من الضرر الكثير، ومن المعروف ان الكثير من الأطفال والشباب يعانون من فقدان الثقة بذويهم، ولا يتمكنون من إخبارهم بكل شيء، فبعض الآباء او الامهات يتبعون اساليب الصرامة مع ابنائهم ظانين بمنفعة هذا الاسلوب في ضبط سلوك أبنائهم ومنعهم من الخروج عن الطريق الصحيح، فتراهم يعاقبون الابناء او يلومونهم على كل شيء حتى لو كان خطأهم صغيراً او غير متعمد، فيعدون ان الخطأ ليس بكونه صغيراً او كبيراً، بل بكونه خطأ، و ان من تجرأ على الصغيرة، سيتجرأ على الكبيرة، وان لوم الابناء على اخطائهم غير المتعمدة سيجعلهم اكثر حرصاً على عدم تكرارها، واكثر انتباها على تجنبها.
لا بديل عن ان يشعر الابناء ان بإمكانهم التحدث الى الوالدين عن كل مشاكلهم حتى لو كانوا هم المخطئين كلياً او جزئياً؛ ولهذا الامر نحتاج الى معرفة اكثر عمقا بطرق التربية وكسب الثقة
مبدئيا ان كاتب هذه المقالة ليس مختصاً في علوم التربية ليقيّم هذا الاسلوب، ويحدد سلبياته ومنافعه، إنما المقالة إشارة لمشكلة يعتقد الكثيرون من اهل الاختصاص ان جذورها في هذا الاسلوب، وربما يمكن علاجها حتى بدون تغيير الاسلوب نفسه، بغض النظر عما اذا كان الاسلوب نافعاً او ضاراً.
ففي كثير من الاحيان، نجد بعض المشاكل النفسية متجذرة في نفس الشباب لتسبب اغصانها وفروعها مشاكل كثيرة في كل اجزاء حياتهم، وعند الغوص في ما مروا به من احداث في بداية نشأتهم، نجد احداثاً مثل التعرض للتحرش الجنسي، او الاعتداء، ونجد ان الطفل قد اخفاه في نفسه عن الجميع، حتى الوالدين.
وتعمقا في معرفة ما دفعهم الى عدم اللوذ بمن يفترض ان يلوذوا بهم، نجد ان احد الاسباب هو خوفهم من ان يحمّلهم الوالدان مسؤولية خطأ ما قد حدث، وفي اكثر الاحيان يربطونها بأحداث سابقة حصلت لهم ولم يروا من الوالدين ما يشعرهم بالامان الذي كانوا يبحثون عنه، كعدم الاكتراث او توجيه اللوم لهم، او حتى حثهم على الكتمان خوفا من الفضيحة، حتى لو كان الامر فيه ضياعا لحق الطفل واعترافا بالضعف امام لوم المجتمع او قوة المعتدي.
وقد لا يمكن حصر الاسباب التي تدفع الوالدين الى هذا الطريق بما يمكن ذكره وذكر تفاصيله بشكل كامل. لكن قسما منها معلوم للبعض، كغلبة العاطفة على العقل في حكم الابوين، او تحكيمهم المزاج في التعامل، او كنتيجة لما يتعرض له الوالدان من ضغوط ومصاعب في الحياة، او قد يكون غفلتهم عن هذا الجانب وعدم توقعهم حدوثه، او لاسباب اخرى لو فكر البعض منّا لتوصل اليها.
-
حرية الحديث للأبناء
والامر كل الامر ينتج من هدم جسور التواصل بين الوالدين وابنائهم، و الأهم في هذه الحالة هو كيفية إعادة بناء جسور التواصل حتى بعد هدمها ليمارس الوالدان دورهم في احتواء ابنائهم، وليكونوا الكهف الحصين لهم في كل شدة.
لا يكفي ان تعتقدان ان ابنائكم يستطيعون الحديث معكما بدون خوف او قلق، بل يجب ان يعتقدون هم انهم قادرين على الحديث معكم بلا خوف.
لا يكفي ان تعتقدان ان ابنائكم يستطيعون الحديث معكما بدون خوف او قلق، بل يجب ان يعتقدون هم انهم قادرين على الحديث معكم بلا خوف
فلا احكام مسبقة قبل معرفة الامور بكامل تفاصيلها، فالاحكام المسبقة هي باب الظلم الذي يدخل به البعض منا، ولا غضب يفقد الوالدين عقولهم وسيطرتهم على ما ينطقون به عند الحديث، والكل يعرف ما للغضب من صور قبيحة تجعل الجميع ينفر من الانسان الغضوب.
وربما يكون اتباع منهج إيجاد الحلول قبل معرفة المخطئ، وقبل اللوم والتوبيخ، اكثر فائدة في بعض الأحيان، على ان تكون القاعدة الاولى في التعامل مع المشاكل هي ان لا افراط ولا تفريط، ووضع كل شيء في مكانه المناسب.
فلا بديل عن ان يشعر الابناء ان بإمكانهم التحدث الى الوالدين عن كل مشاكلهم حتى لو كانوا هم المخطئين كلياً او جزئياً؛ ولهذا الامر نحتاج الى معرفة اكثر عمقا بطرق التربية وكسب الثقة.
ان ما ذكرناه سوية لا يعني اعتبار الأخطاء امرا مقبولا، فهكذا اسلوب في التربية يفسد ولا يصلح، لكن كثرة اللوم تجعل القلب مدبراً عن النصيحة.
و ختاما؛ علينا ان نربي ـ ابناءنا ـ بأفعالنا قبل كلماتنا، وللمولى أمير المؤمنين، صلوات الله عليه، نصيحة في هذا الامر في غاية الروعة، انه قال في ختام إحدى وصاياه الجميلة: “و معلم نفسه ومؤدبها أحق بالإجلال من معلم الناس ومؤدبهم”.