حين تجد الباطل يربح الجولة بعد الأخرى؛ وترى الحق يندرس يوماً بعد آخر؛ حين ترى الحقيقة تذبح، والفساد ينتشر، حين لا تجد أينما ألقيت ببصرتك إلا الخيانة، فيصبح الناس عبيداً للدينار والدرهم، فيخونك ابن عمك، ويحاول قتلك من هو في جيشك؛ حين تسمع الإهانة ممن حقنت دمه ودفعت عنه، ماذا عليك أن تصنع؟
كل ما ذكرته يتكرر بين الفينة والأخرى، فيجد القائد الرسالي، أنّه يعيش العزلة والوحدة، يعيش في الناس ولا يعيش معهم؛ لأنَّ رائحة الغدر تنتشر في الفضاء، ويكون المال السياسي هو المسيطر، والمصالح هي المتحكّمة بالأفراد والجماعات، والسؤال المهم، ما الذي على القائد القيام به في هذه الظروف؟
-
مولد السبط الأكبر
فرحة عمّت قلب سيد الكائنات، بما لا يمكن وصفها، فالنبي الذي كان العدو يسميه الأبتر، قد بدى آثار ما أعطاه الله من الكوثر.
فها هو سبطه الأكبر، ووارثه الحسن الزكي المجتبى ولد في الخامس عشر من شهر رمضان عام 3 للهجرة، ليأخذه النبي صلى الله عليه وآله، وكلّه فرحاً بأبي محمد، فيؤذن في أذنه اليمنى، ويقيم في اليسرى، ثمَّ يولم حتى يأكل كل أهل المدينة من عقيقته.
من المشاكل التي ابتلينا بها وللأسف الشديد هو الخلط ما بين النظرية والممارسة، فاليوم يتحدث الناس عن فشل الإسلام في قيادة الحياة السياسية، وفشل العلماء، لماذا؟! لأنّهم وجدوا عمائم سارقة، او أحزاب فاشلة، وهذا اكبر شرخ يمكن أن يحدث ويقف أمام أيّة حركة رسالية وتطلعاتها في قيادة الدين للحياة
ترى من جاء الى الدنيا؟ جاء الذي كان يحمله سيد الخلق على عاتقه ويقول:” اللهم إنّي أُحب حسناً فاحبّه”.
ذلك الذي عامله النبي معاملة الكبار فشهد معه بيعة الرضوان، وقبل شهادته على كتاب المعاهدة مع ثقيف، وهو الشجاع الذي ورث الشجاعة من أبويه، وقد نحله رسول الله هيبته وسؤدده، وقال فيه: “من سرّه أن ينظر إلى سيد شباب أهل الجنة فلينظر إلى الحسن بن علي”.
وهو الذي ملأت فضائله الخافقين، فاسأل آية التطهير، والمودّة، والمباهلة، وأهل الذكر، ثمَّ اسأل عن اللؤلؤ والمرجان، وعن سورة الإنسان ثمَّ بعد كل ذلك قل: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}.
تصوّر أن القائد الرسالي الذي تحدّثنا عنه في مقدمتنا هو ريحانة رسول الله الإمام الحسن عليه السلام.
-
الإمام الحسن عاش التجربة
الإمام الحسن المجتبى عليه السلام، عاش التجربة بكل تفاصيلها، فهو الذي رأى كيف يدفن أمير المؤمنين، عليه السلام، بضربة ابن ملجم المنافق الذي دسّه معاوية، وكيف يفرح بذلك آل أمية ويسجد معاوية شكراً لله على ذلك.
ومن قبل ذلك رأى كيف تخاذل الناس عن معسكر أبيه في النخيلة بجهود الأشعث بن قيس ومن معه من المنافقين، وكيف أغار معاوية على الأنبار، والبصرة، والمدينة، واليمن، ومصر حتى قتل فيها من قتل، ومنهم محمد بن أبي بكر رضوان الله عليه، وكيف جرّعت تلك الخيانات قلب الإمام الغصص.
ثمَّ ما جرى معه بعد أنَّ بايعه 40 الف سيف على أن لا يغمدوها إلّا بعد أخذ الثأر من معاوية، وكيف غدر به حتى عبيد الله بن العباس ابن عمه وقائد جيشه، فباع الجيش والأسرار بمأتي الف درهم.
وقد حاول بعض المندسين في جيشه اغتياله مرة حين اغاروا على خيمته وأخرى في طريق العودة قرب المدائن حتى جرح في فخذه وحمل إلى المدائن.
ثمَّ رأى انقلاب الناس عليه في صلحه مع معاوية، وكيف صارت دولة الباطل تصول وتجول وتتحكم ليأتي معاوية إلى الكوفة فاتحاً، ويضع صلحه مع الإمام تحت قدميه، وهو يعلم بأنَّ جيش الإمام قد انتهى فلم يبق معه سوى سرية بقيادة قيس بن سعد بن عبادة.
-
ماذا يصنع القائد الرسالي؟
لكن السؤال الأهم ما الذي فعله الإمام عليه السلام؟ وماذا على الرسالي المؤمن الذي يعيش الظروف المشابهة أن يقوم به مقتدياً في ذلك بالإمام الحسن المجتبى عليه السلام.
الحقيقة، أنَّ روح الشهادة الحسينية روح عظيمة وهي التي سيطرت على ثقافة الشيعة بشكل كبير، ولكن انتصار الإيمان لم يكن بشهادة الإمام الحسين عليه السلام لوحده بل بهما معاً.
من الكلمات اللطيفة في وصية الإمام امير المؤمنين عليه السلام بولده الإمام الحسن قوله: “أنت يا حسن وصيّي والقائم بالأمر بعدي، وأنت يا حسين شريكه في الوصية فأنصت ما نطق، وكن لأمره تابعاً ما بقي، فإذا خرج من الدنيا فأنت الناطق بعده والقائم بالأمر”.
فالحسين عليه السلام، وما قام به كان بشركاته مع الإمام الحسن عليه السلام، ومن أهم الأدوار التي قام بها الإمام في هذه الفترة هي الإعداد الفكري والسلوكي للطعلية المؤمنة.
-
إعداد الطليعة
ولأنَّ كل واحد منا قد يعيش أجواءاً مشابهة، وظروفاً خاصّة، علينا دراسة هذه الحقبة بتمعّن ، وما قام به الإمام عليه السلام، من أجل إعداد الطليعة ليس عسكرياً وإنّما فكرياً وسلوكياً، بعد أن ضمن ـ ولو قانونياً ـ الإبقاء عليهم فجعل من بنود الصلح أن لا يكون لمعاوية على أصحاب علي سبيل، يمكن ذكر شواهد عليها:
-
الف ـ رفض الاعتراف بشرعية السلطة
الرسالي الذي لا يمكنه تغيير الواقع، لا ينخرط مع الواقع، ويُظهر رفضه الاعتراف بشرعية السلطة بالرغم من أنَّ السلطة قد تلزمه بحكم القهر، ولكنّه يظهر كون التزامه نابعاً عن قهرها لا عن شرعيتها.
فمثلاً نجد الإمام الحسن عليه السلام، رفض رفضاً قاطعة تسمية معاوية بإمرة المؤمنين، ورفض أن يستلم أيَّ مركز، أو موقع، أو سلطة من معاوية بل ورفض عطايا معاوية رفضا قاطعاً.
-
باء ـ فصل الممارسة عن النظرية
من المشاكل التي ابتلينا بها وللأسف الشديد هو الخلط ما بين النظرية والممارسة، فاليوم يتحدث الناس عن فشل الإسلام في قيادة الحياة السياسية، وفشل العلماء، لماذا؟! لأنّهم وجدوا عمائم سارقة، او أحزاب فاشلة، وهذا اكبر شرخ يمكن أن يحدث ويقف أمام أيّة حركة رسالية وتطلعاتها في قيادة الدين للحياة.
ولذلك من الأمور التي يجب على الطليعة المؤمنة القيام بها دائماً الفصل بين الأمرين، وهذا ما قام به الإمام الحسن عليه السلام أيضاً، عندما فصل بشكل قاطع بين الخلافة والإمامة، وفي موارد كثيرة صرّح بذلك كما في خطبته الطويلة التي القاها في الكوفة قبل رحيله.
من يدرس السنوات العشر لإمامة الإمام الحسن المجتبى عليه السلام، يجد بكل وضوح قيام الإمام بدور الإعداد للكوادر الرسالية المؤمنة، وذلك بتسليحهم بالأخلاق والمعارف والعلوم، وأيضاً تكليفهم المهامّ الرسالية المختلفة
وقصة الخطبة أنَّ عمرو بن العاص طلب من معاوية أن يُصعد الحسن ليخطب، لأنّه عيٌّ لا يجيد الخطابة قبل أن يذهب الى المدينة، ليفتضح أمام أهل الكوفة؛ وبالرغم من رفض معاوية بداية إلّا أنّه وقع فيها.
فخطب الإمام خطبة بليغة بيّن فيها فضائل النبي وأهل بيته عليهم السلام، ومنها فضائله وفضائل ابيه، وموقعهم في الإسلام وما يمثلونه من خط الإمامة، وفي قبال ذلك مكانة آل امية في مواجهة الإسلام وتسلطهم على الخلافة بالقهر والغدر.
وهذا ما يجب على المؤمنين القيام به أيضاً بل والتركيز عليه، ببيان الحقائق، والثمار الإيجابية الكبيرة لقيادة العلماء والدين لمفاصل الحياة العامّة.
-
ثالثاً: تربية الكوادر
من يدرس السنوات العشر لإمامة الإمام الحسن المجتبى عليه السلام، يجد بكل وضوح قيام الإمام بدور الإعداد للكوادر الرسالية المؤمنة، وذلك بتسليحهم بالأخلاق والمعارف والعلوم، وأيضاً تكليفهم المهامّ الرسالية المختلفة، وأساساً عودة الإمام الحسن عليه السلام إلى المدينة المنوّرة كان لإعطاء من بقي من الكوارد المؤمنة حصناً يلجأون اليه، ممن بقي من صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وأصحاب امير المؤمنين عليه السلام.
وهذا دور كبير قام به الإمام عليه السلام، فالقائد الرسالي قد لا يمكنه تغيير الواقع، لكن بإمكانه أن يُعدَّ غيره لأجل تحقيق هذا الأمر، فيثبت تجاربه في قلوب الرجال، وينقل همَّ الدين والرسالة إلى صدورهم، ويحمّلهم هذه الأمانة التي تحمّلها.