يقول الامام زين العابدين، عليه السلام، في دعاء مكارم الأخلاق: “اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَاجْعَلْ لِي يَداً عَلَى مَنْ ظَلَمَنِي، وَلِسَاناً عَلَى مَنْ خَاصَمَنِي، وَظَفَراً بِمَنْ عَانَدَنِي، وَهَبْ لِي مَكْراً عَلَى مَنْ كَايَدَنِي، وَقُدْرَةً عَلَى مَنِ اضْطَهَدَنِي، وَتَكْذِيباً لِمَنْ قَصَبَنِي، وَسَلامَةً مِمَّنْ تَوَعَّدَنِي“.
ثمة سؤال:
هل من الجيد ان يكون المؤمن ضعيفاً؟ أم ينبغي ان يكون قوياً؟
وهل ينبغي ان يكون المؤمن مظلوماً، أم عليه أن يدفع عن نفسه الظلم، كيفما استطاع؟
أليس في الحديث الشريف: “أن الظالم والمظلوم وشاهد الظلم شركاء ثلاثتهم”؟
هنالك تصور عن المؤمن بأنه ذلك الشخص الوديع، الضعيف، الذي لا يؤذي أحد، ولا يستطيع إيذاء أحد، وحسب المثل العراقي: “يمشي جنب الحائط”! وغيرها من الاوصاف الخاطئة.
صحيح؛ أن المؤمن مهما أوتي من القوة، يبقى رحيماً بالضعفاء، ومهما بلغ من المنعة لا يظلم أحد، ومهما بلغ من المرتبة العلمية لا يتكبر على أحد، كل هذا صحيح، ولكن أن لا يوفر المؤمن صفات القوة لنفسه، فهذا خطأ.
ومن يقرأ تاريخ الاسلام، يجد أن مما اهتم به الرسول الأكرم، صلى الله عليه وآله، بشكل بالغ؛ توفير المنعة والقوة للمسلمين.
سمع ذات مرة، صلى الله عليه وآله، أن في اليمن تم اختراع سلاح جديد، أمر بأن يذهب عدد من المسلمين الى هناك ليتعرفوا على هذا السلام ويتعلموا كيفية صنعه.
هنالك تصور عن المؤمن بأنه ذلك الشخص الوديع، الضعيف، الذي لا يؤذي أحد، ولا يستطيع إيذاء أحد، وحسب المثل العراقي: “يمشي جنب الحائط”! وغيرها من الاوصاف الخاطئة
قبل ان يفتح المسلمون خصون خيبر، كان لدى اليهود أمران: الأول؛ حصان طروادة، والثاني: المنجنيق، فكلف النبي المسلمين بمعرفة كيفية صناعة هذه الآلات، علماً ان التجربة الاولى للمسلمين في “حصان طراودة” كانت فاشلة، وتسبب في استشهاد عدد من المسلمين في حصار الطائف، مع ذلك؛ كانت محاولة تستحق العناء للبحث عن عوامل القوة، وهذه كانت من صفات الانبياء والأولياء؛ أقوياء دائماً.
ولذا فان المؤمن يدعو ويطلب من الله ـ تعالى- ان تتوفر فيه صفات القوة، والقوة ليس بالضرورة تكون بدنية، وقوة السلاح، ربما تكون قوة المال، والعلم، والتنظيم، والاعلام، فهو يدعو الله لذلك، ثم يعمل في هذا الطريق.
ولمن يقرأ التاريخ السياسي لبلادنا، نجد أن الجرائم والمآسي والويلات التي طالت شعوبنا بدأت منذ أن تغلغلت هذه الفكرة في ادمغة المسلمين، وما تزال مأساة اليمن ماثلة امام الجميع؛ ست سنوات تُحاصر اليمن، مع قصف جوي شديد، وقتل للاطفال والنساء، وايضاً قتل بالتجويع، ولا أحد يتحدث عن هذا في العالم، وكأن شيئاً لا يحدث، ولكن! سقوط صاروخ واحد في العاصمة السعودية، ينفجر له الاعلام ويقيم الدنيا ولا يقعدها، على أن هذا “عمل ارهابي”، بينما ما تقوم به السعودية بحق الشعب اليمني ليس بارهاب.
فاذا كان كل شيء بيدهم؛ من إعلام، وسلاح، ومال، فانهم يتحكمون بنا وبمصائرنا بسبب هذه النظرة الخاطئة المرزعة في اذهان الكثير من ابناء الامة.
-
يد الله = قوة الله
عندما يطلب الامام زين العابدين، عليه السلام، بأن “وَاجْعَلْ لِي يَداً عَلَى مَنْ ظَلَمَنِي، بمعنى؛ امنحني القوة، واليد في اللغة؛ القوة، {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ}، ولكن هذه القوة ليست بهدف الانتقام والفتك، فهذه ليست من شيم المؤمن، إنما هي قوة الردع التي توفر المنعة أمام العدو.
“وَلِسَاناً عَلَى مَنْ خَاصَمَنِي”
انه تعبير جميل عن “الإعلام”، فالامام يطلب من الله ـ تعالى- أن يمنحه قوة المنطق والخطاب المؤثر بحيث يتغلب على الطرف المقابل فكرياً وثقافياً.
هشام بن الحكم، أحد اصحاب الامام الصادق، عليه السلام، يقول عنه: “ما زالت مؤيداً بروح القدس ما كنت تذبّ عنّا”، لقوة منطقة واسلوبه في الاحتجاج وافحام الطرف المقابل.
ذات مرة دعا هارون العباسي الى مناظرة علمية وكلامية في قصره، فاسدل ستاراً ليسمع ويتابع من وراء الستار، وممن جاء من العلماء؛ هشام بن الحكم. وبعد أن اخذ مجلسه، انبرى له احد الجالسين بالسؤال: “يا هشام! بِمَ فضلت علي بن أبي طالب، على ابي بكر وقد مدحه القرآن الكريم إذ قال {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ}، انه صاحب رسول الله! قال له هشام: اقرأ تتمة الآية: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ}، ثم سأله: هذا الحزن الذي كان في قلب أبي بكر، برضى الله أم بغير رضاه؟! فان قلت كان برضا الله، فلم قال له: لا تحزن؟! وإن كان بغير رضا الله، فما هي فضيلته؟!
ثم عطف عليه وسأله: ألست تروي ـ ونحن جميعاً- أن الشهداء في الإسلام أربع: علي وحمزة وجعفر وعبيدة؟ قال: نعم، فقال: واين صاحبك فيها؟!
و راح يسرد عليه الاسئلة التي تؤكد فضائل أمير المؤمنين بالأدلة القاطعة من الكتاب والسنّة، حتى انتفض هارون من خلف الستار وصرخ أمام الحاضرين: إن لسان هشام أحدّ على من ألف سيف! إن قوة المؤمنين بالدرجة الاولى في منطقهم، وعلمهم، وإعلامهم.
صحيح؛ أن المؤمن مهما أوتي من القوة، يبقى رحيماً بالضعفاء، ومهما بلغ من المنعة لا يظلم أحد، ومهما بلغ من المرتبة العلمية لا يتكبر على أحد، كل هذا صحيح، ولكن أن لا يوفر المؤمن صفات القوة لنفسه، فهذا خطأ
“وَظَفَراً بِمَنْ عَانَدَنِي”
من هو المعاند؟
إنه ذلك الذي يعرف الحقيقة، ولكن ينكرها، {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ}، وهؤلاء من المخلدين في نهار جهنم، “وأن تخلّد فيها المعاندين”.
وفي زمن النبي الاكرم، صلى الله عليه وآله، يتحدث القرآن الكريم عن أولئك الذين وقفوا بوجه رسول الله ويقول: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ}، فهم يعرفون جيداً انه رسول من رب العالمين، وانه الرجل الذي بشرت به الرسالات السماوية.
وبعد الفعل الخارجي في طلب الامام لثلاث أمور: اليد، واللسان، والظفر، غير الامام زين العابدين لغة الدعاء وقال: “اللهم هبني مكراً على من كايدني”.
-
المكر السيئ والمكر الحَسَن
نقرأ في دعاء أبي حمزة الثمالي: “إِلهِي .. وَلا تَمْكُرْ بِي فِي حِيلَتِكَ“، ولكن ما هو المَكر؟
انه الوصول الى المبتغى بطرق ملتوية، ولذا ثمة مكرٌ سيئ، ومكر ممدوح. لذا يطلب الامام من الله مكراً يعينه على مواجهة من يتربّص به الدوائر، ولهذا مدخلية في الفكر والذهن، وليس في الفعل الخارجي.
ثم قال، عليه السلام: “وَقُدْرَةً عَلَى مَنِ اضْطَهَدَنِي“. فما الفرق بين “يَداً عَلَى مَنْ ظَلَمَنِي“، و”قُدْرَةً عَلَى مَنِ اضْطَهَدَنِي“؟
يبدو؛ أن الاضطهاد نوع ظلم خاص، ويكون الظلم ضد الانسان على اساس عقيدته، كأن يحرم الانسان من فرصة عمل كونه ينتمي الى مذهب اهل البيت.
“وَتَكْذِيباً لِمَنْ قَصَبَنِي”
قصبني؛ عاب عليّ، والانسان لا يخلو من عيوب، بيد أن الامام يدو الله بأن يجعل ما يتحدث به الناس من عيوب عليّ يكون كذباً، وأن لا يكون فيّ هذا العيب.
” وَسَلامَةً مِمَّنْ تَوَعَّدَنِي”
بأن الله ـ تعالى- نصيره ودافعاً له مما يحاك ضده من دسائس ومؤامرات بهدف الحاق الأذى والقتل.