يقول الإمام زين العابدين: “وَمِنْ عُقُوقِ ذَوِي الأَرْحَامِ الْمَبَرَّةَ، وَمِنْ خِذْلانِ الأَقْرَبِينَ النُّصْرَةَ، وَمِنْ حُبِّ الْمُدَارِينَ تَصْحِيحَ الْمِقَةِ، وَمِنْ رَدِّ الْمُلابِسِينَ كَرَمَ الْعِشْرَةِ، وَمِنْ مَرَارَةِ خَوْفِ الظَّالِمِينَ حَلاوَةَ الأَمَنَةِ.”.
جاءت كلمة “عقَّ”؛ من معنى الفجوة، والمصطلح عادة يستخدم في عقوق الوالدين، ولكن العبارة هنا أعم، فشملت كل الأرحام، ومعناها ـ عقَّ ـ في هذه الفقرة من الدعاء، هي القطيعة بين الأرحام
كتاب عدة الداعي من الكتب التي تتناول الدعاء ومستحباته، ومكروهاته، وموانعه..، وهو عبارة عن روايات عن النبي وأهل البيت، صلوات الله عليهم، فمن الاداعية المستجابة دعاء الوالدين بحق ابنائهم، ومن الأدعية المستجابة ـ أيضا ـ دعاء الأب على ولده، فإنه لا يرد.
بركات الدنيا والحصول على الارزاق مرتبطة ارتباطا وثيقا ببر الوالدين، وصلة الأرحام، قديما كانت صلة الارحام جزءا من حياة الناس، اما هذه الايام مع الوسائل الجديدة للتواصل، اصبحت الصلة المباشرة شيء قليل، وأساس صلة الارحام هي بالمال.
في آخر لحظات حياة الإمام الصادق، عليه السلام، كان يوصي بأن توزع الأموال على عدد من الأشخاص، وكان من بينهم من هو عدو للإمام، عليه السلام، لكنه من أرحامه، فقال الراوي: أتعطي من حاول قتلك، وهو لا يكف عن اذيتك؟ فقال الإمام الصادق، عليه السلام: ويلك اتريد ان اكون ممن قال الله عنهم: {الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ}.
فقطيعة الرحم لا تجوز بأي حال من الأحوال، إلا إذا كان عدو لله، أو كانت ـ القطيعة ـ ستؤدي الى ارتداع المقطوع عن المنكر، أو ائتماره بالمعروف. في المقابل من الأمور التي تصقف عمر الإنسان هو عقوق الأرحام، وعلى وجه الخصوص عقوق الوالدين.
يقول الإمام السجاد، عليه السلام، في دعائه لوالديه: “اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي أَهَابُهُمَا هَيْبَةَ السُّلْطَانِ الْعَسُوفِ، وَ أَبَرُّهُمَا بِرَّ الْأُمِّ الرَّءُوفِ، وَ اجْعَلْ طَاعَتِي لِوَالِدَيَّ وَ بِرِّي بِهِمَا أَقَرَّ لِعَيْنِي مِنْ رَقْدَةِ الْوَسْنَانِ، وَ أَثْلَجَ لِصَدْرِي مِنْ شَرْبَةِ الظَّمْآنِ، حَتَّى أُوثِرَ عَلَى هَوَايَ هَوَاهُمَا، وَ أُقَدِّمَ عَلَى رِضَايَ رِضَاهُمَا، وَ أَسْتَكْثِرَ بِرَّهُمَا بِي وَ إِنْ قَلَّ، وَ أَسْتَقِلَّ بِرِّي بِهِمَا وَ إِنْ كَثُرَ”، ومما يؤسف له أن الاطفال والشباب في هذه الأيام لا يراعون حرمة الأبوين، فنرى الشاب يسب أحد والديه، والآخر يرمي بهما في دار العجزة، وحتى المدارس اصبحت تعمل على فكرة أن يتحرر الأبن من والديه، تحت دعوى الحرية، وما اشبه من هذه الشعارات التي تلبس الحق بالباطل.
“وَمِنْ خِذْلانِ الأَقْرَبِينَ النُّصْرَةَ”، ليس المراد من “الاقربين”، الأقارب من حيث النسب والرحم، ولعل المعنى الأقربين من حيث المكان، لأن الإمام زين العابدين، عليه السلام، بيّن حقوق الأرحام في الفقرات السابقة، فحين يقع الإنسان في مشكلة ما، فإنه ينتظر ان يقف المقربين معه، لكن المعضلة، والأشد مرارة حين يخذلك الأقرب.
“وَمِنْ حُبِّ الْمُدَارِينَ تَصْحِيحَ الْمِقَةِ“، من الامور المبحذة في الشرعية الإسلامية مادراة الناس، عن الإمام علي، عليه السلام: “سلامة الدين والدنيا في مداراة الناس”، صحيح أن القلوب لها اقبال وادبار، والارواح جنود مجنّدة ما تآلف منها ـ في عالم الارواح ـ تآلف هنا، وما تخالف هناك تخالف هنا، وهذا أمر طبيعي، فالذي تحبه ستكون المعاملة معه بأخلاق المحب، لكن الذي لا تحبه كيف تتعامل معه؟ المداراة هي أن لا تظهر البغضاء لمن لا تحب، وهذا عكس النفاق، الذي يكون القول بغير الحق. ولكن المداراة هي أن لا تظهر البغضاء، وتقول الحق إن وجد.
“وَمِنْ رَدِّ الْمُلابِسِينَ كَرَمَ الْعِشْرَةِ”، ومعنى “الملابس” أي المعاشِر، وكم هو جميل أن يكون المعاشر للإنسان كريم الطبع والنفس، بعكس الإنانية التي تريد المنافع للنفس فقط دون تقديم أي عطاء للآخرين، فالإنسان الأناني مع أن يعيش الحالة السلبية السيئة داخل نفسه، إلا أن تلك الأنانية تمنع صاحبه من النجاح في ميداين الحياة المختلفة، فإذا وجد أناني في أحدى الدوائر، وكان يتعامل مع زملائه من منطلق الأنانية، فإن البقية سيتعاملون معه بذات الشاكلة.
“وَمِنْ مَرَارَةِ خَوْفِ الظَّالِمِينَ حَلاوَةَ الأَمَنَةِ“، مَن عاش في زمن النظام القمعي في العراق يعرفون معنى “الخوف من الظالم”، أيضا من وجد في المحافظات التي طالها الارهاب الداعشي، بالذبح والتفخيخ، يعرفون ذلك المعنى. فالإنسان الذي يعيش تحت خوف الظالم، لا يجد للحياة طعما.
وللأسف الشديد فإن الشباب الذين لا يشكرون نعمة زوال الطاغية، ويتنمنون عودة الدكتاتورية، سواء دكتاتورية صدام، أو غيره، فالكلام الذي يصدر عن البعض: نحن لا يفيد معنا إلا دكتاتور، و(ما تصير إلنا جاره)، وما اشبه من الكلام غير الواعي، إن دل ذلك إنما يدل على أن هؤلاء لم يذوقوا مراراة خوف الظالمين، الذي كان الأب يخاف من ظله، ومن ابنه.
أما الآن في العراق، فالناس يعيشون حلاوة الأمنة، عن أمير المؤمنين، عليه السلام: “نعمتان مجهولتان؛ الصحة والأمان”. فما دامت الحرية والصحة والأمان متوفرة، فلماذا لا نشكر هذه النعم؟