سألني: لماذا نصوم؟!
أ لم يعطنا الله ـ تعالى- الفم، وفيه الاسنان واللسان، ثم بعدها نصوم عن تناول الطعام؟
ثم ماذا يفعل الله بصيامنا؟
وهل يستفيد منه شيئاً؟
أجبته: رغم حديثك وفق رؤية مادية بحتة تختلف عن تلك التي يجب أن ننظر بها للحياة كبشر، فالجميع إتفق؛ حتى غير المؤمنين على وجود ما وراء الطبيعة (الميتافيزياء) لكني سأجيبك.
نَظَرتْ البشرية بنظرتين متضادتين للجسد، فكان هو مصدر الشرور برأي الحضارات الشرقية القديمة، فاليانيون (وهم إحدى القبائل الدينية في الهند) كان لديهم صوم، ولكن لمن؟ للمريض المأيوس من علاجه و شفائه، فكان يصوم عن الطعام والشراب حتى يموت كون جسده غير صالح ومصدر شر.
أما البوذيون فقد فعلوا بالجسد الأسوأ، حيث يُحرق ويذرى رماده في الجو أو يوضع في زجاجة كيلا يبقى منه شيء !
في المقابل كان الغرب واقفاً على النقيض، فقديماً أسس أبيقور، الحكيم اليوناني القديم، مذهب اللذة، وجعل اللذة هدف كل عمل يقوم به الإنسان، ولا قيمة لكل شيء بلا لذة، أما حديثاً فلا نحتاج إلى بيان أن كل شيء في هذه الحياة بنظر الغربيين والماديين يقوم به الإنسان، هو إما لجلب مصلحة له، أو دفع مضرة عنه دون أي تفكير بالآخرين فأهم شيء “أن نعيش”.
ولا أقول أن الإسلام وقف وسطاً كما خرج الرئیس البوسني الراحل علي عزت بیجوفیتش بکتابه المعروف: “الإسلام بین الشرق والغرب” لیتحدث عن الصوم على أنه “اتزان المناهج بین روحانیة الشرق الخالصة ومادیة الغرب الطاغیة”، و هو یبدو کذلك محطة الاستقرار النهائي بعد صراع المسیحیة والیهودیة وما نالهما من التحریف.
وثمة فلسفة أخرى للصوم تتمثل في الخروج من المادية الطاغية للروحانية، وتذكير الإنسان بأقوى قواه المنسية – وهي الإرادة- التي بها امتثل لأمر ربه، وترك الماء البارد في عطش الصيف، وهي تمهيد للإنتصار على النفس في ميادين أعنف يريد بها الإنسان أن يحقق أهداف أكبر على صعيد ذاته، فتخونه إرادته أو على صعيد أمته فتخونه إرادته أيضاً، وفي المرتين تكون النفس هي المشتري لذمة الإرادة الضعيفة، فمن يترك الطعام في الجوع والشراب في العطش، بل وينتصر على نفسه بتحسين أخلاقه في هذا الشهر وهنا التحدي -لا أن يقول ابتعد عني ولا تكلمني فأنا صائم!- فانه مستعدٌ لترك أشياء أهم وأكبر في ظروف مختلفة لتحقيق أهداف كبرى منها؛ تعميق الشعور الإنساني بالمساواة والكونية خارج الحدود الضيقة، فيتساوى الكبير والصغير والأسود والأبيض والغني والفقير بعملٍ واحد ويحس المتمكن منهم بحاجة الضعيف.
ينقل أحد أساتذة الحوزة العلمية أنه كان في شهر رمضان العام الماضي في بريطانيا، حيث إنتشار وباء كورونا في أوجه في لندن، وقد انقطعت به السبل، وتعذر عليه العودة الى وطنه، وكان مستأجراً غرفة من بيت شخص من أصول افريقية، والرجل لم يكن مسلماً، وقد لاحظ عليه آثار الصوم، من جوع وعطش، فسأله باستغراب: ما هذا الذي تفعله بنفسك؟! كيف تبقى لساعات طويلة دون طعام وشراب؟
أجابه الاستاذ الشيخ بعفوية: أنا أمتنع عن الطعام والشراب لأتذكر الأطفال والنساء الذين تعصف به المجاعة وشحّة المياه الصالحة للشرب في أفريقيا.
فقال الرجل: “دينكم خيرُ دين”.