مكارم الأخلاق

تأملات في دعاء مكارم الاخلاق (6) التفاخر آفة الأخلاق

يقول الإمام زين العابدين، عليه السلام، في دعاء مكارم الأخلاق: ” وَأَجْرِ لِلنَّاسِ عَلَى يَدِيَ الْخَيْرَ وَلا تَمْحَقْهُ بِالْمَنِّ، وَهَبْ لِي مَعَالِيَ الأَخْلَاقِ، وَاعْصِمْنِي مِنَ الْفَخْرِ.”.

من الرازق؟

من المُعطي؟

من الذي يجري الخير للناس، أليس هو الله ـ تعالى-؟ ثم أليس كل شيء منه ـ تعالى-.

فاذا كنت أنا الذي أنفق، وأنا الذي أتصدق، فمن الذي أعطاني؟ ومن مال من أنفق؟ أليس هو من الله ـ تبارك وتعالى-؟

إذن؛ كيف ندعي وننسب فعل العطاء الى انفسنا؟

يُنقل عن أحد علماء الدين الكبار في مدينة قم المقدسة، أنه كان على المنبر وأمامه حشدٌ كبير من طلبة العلوم الدينية، وكان درسه من أكثر حلقات درس بحث الخارج حشداً بالحضور. فقال: فجأة أحسست أني لا امتلك من أقوله! علماً انه أمضى وقتاً في بيته في التحضير والمطالعة لهذا الدرس.

فتوجه الى هذا العالم الى الامام الرضا، عليه السلام، بالقول: “يا ابن رسول الله! أنا لا أملك علماً من نفسي، ومهمتي نشر علومكم، لا أكثر، فإن شئتم أخذتموه منّي، وإن شئتم اعطيتموه لي فالأمر اليكم”.

في اليوم الثاني ـ يقول العالم- توجهت صوب المنبر للبدء في بحث الخارج واذا بي استعيد ذاكرتي تماماً.

هكذا يختبر الله ـ تعالى- ويختبر الأئمة الاطهار اصحابهم بأنهم لا يملكون من انفسهم شيئاً.

حسناً؛ إن كان الرازق والمعطي هو الله ـ تعالى- فما يكون دور الانسان المؤمن في هذه المضمار؟

إنه واسطة خير.

وهذا ما يجسده الامام زين العابدين في تعبير غاية بالروعة، يقول: ” وَأَجْرِ لِلنَّاسِ عَلَى يَدِيَ الْخَيْرَ”، فالخير والعطاء يصدر منك يا إلهي، إنما طلبي شيء واحد؛ أن يجري هذا الخير والعطاء على يدي أنا، حتى أحصل انا شيئاً من الثواب، وإلا بامكان الله إيصال العطاء بشكل مباشر، لذا يطلب الإمام، عليه السلام أن يكون واسطة لمن؟ ليس للمؤمنين فقط، ولا حتى للمسلمين، وإنما للناس كافة، وهي مفردة تنطوي على دلالات عظيمة، أهمها؛ أن الاسلام في منهجه تحقيق الخير لكل الناس في العالم، لذا نقرأ في الدعاء المأثور أيام شهر رمضان، وهو أفضل الأدعية المؤكدة: “اللهم أدخل على أهل القبور السرور، اللهم اغني كل فقير، اللهم أكسو كل عريان.

وهنا التفاتة هامة؛

إن الله ـ تعالى- لا يجري الخير على يد كل من شاء، فالقضية بحاجة الى توفيق واستعداد لهذا العمل، فثمة الكثير يعطيهم الله من فضله، ولكن لا يوفقون لعمل الخير، بينما هناك اصحاب اليد القليلة لكنه موفق في عمل الخير، وجاء في الروايات: “من لم يشكر المخلوق لم يشكر الخالق”، فقد يأتي العبد يوم القيامة وهو مُلام على عدم الشكر لله، فيقول: يارب أسدي الشكر ليل نهار مئات المرات، فيأتي الجواب: كلا! آليت على نفسي ان لا أقبل شكر من يشكرني ولا يشكر من أنعمت بواسطته عليه.

وعليه؛ نحن مأمورون بالشكر للنبي الأكرم، وللأئمة المعصومين، صلوات الله عليهم، كما نشكر الإمام الحجة المنتظر، عجل الله فرجه الشريف، الذي هو وليّ نعمتنا. نشكر الوالدان الذان هم سبباً لوجودنا في الحياة، بعد مشقة التربية والرعاية والاهتمام.

 

نحن مأمورون بالشكر للنبي الأكرم، وللأئمة المعصومين، صلوات الله عليهم، كما نشكر الإمام الحجة المنتظر، عجل الله فرجه الشريف، الذي هو وليّ نعمتنا. نشكر الوالدان الذان هم سبباً لوجودنا في الحياة، بعد مشقة التربية والرعاية والاهتمام

 

 

  • في الطريق آفة كبيرة!

وهذه العملية بحد ذاتها، (أن يجري الخير على يدي) تعترضها احياناً مخاطر الانحراف والفساد، فهو أصبح من أبرز المعطين والباذلين والمتبرعين، فصنعت له ذلك وجاهة اجتماعية، وهذه الوجاهة واليد البيضاء المعطاء مهددة بشيء اسمه “المَنّ” الذي يحذر منه الامام زين العابدين: “ولا تمحقه بالمنّ”، ومفردة المحق تعني لغوياً؛ الإلغاء التام دون الابقاء على أي أثر، وهذا محل ابتلاء الانسان المعطي والمنفق والذي يجري عطاء الله على يديه، بأن ينزلق نحو “المنّ”، وهذا ما حذر منه القرآن الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}، وهذا المنزلق يمكن ان يتعرض كل انسان مؤمن بلا استثناء.

أحد المؤمنين من شيعة الإمام الجواد، عليه السلام، جاء اليه مستبشراً ضاحكاً، فسأله عن  السبب، فقال: يا ابن رسول الله! زارني البارحة عشرة من المؤمنين وقد قضيت لهم حوائجهم، وانا مسرورٌ بذلك. فقال له الإمام الجواد، عليه السلام: أما قرأت الآية الكريمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى}، فأجاب الرجل بأنه لم يفعل هذا بالمرة، فقال له الإمام: لم يقل القرآن الكريم: “بالمنّ والأذى عليهم”، إنما مطلق المنّ، فانت جئت إليّ وتشرح ليّ كيفية عطاؤك، كما ستفعل ذلك أمام الآخرين، فانت إن لم تكن مننت عليهم، كأنك مننت على الله ـ تعالى-!

 

  • معالي الأخلاق و مخاطر التفاخر

ثم يقول الامام زين العابدين، عليه السلام: “وَهَبْ لِي مَعَالِيَ الأَخْلَاقِ، وَاعْصِمْنِي مِنَ الْفَخْرِ.”.

وثمة سؤال:

لماذا طلب الإمام معالي الاخلاق، ولم يطلب، مكارم الاخلاق؟

إن مكارم الأخلاق مراتب، فالشجاعة من مكارم الاخلاق، وكذا، العفّة والكرم، ولكل واحدة من هذه المكارم مراتب، والإمام، عليه السلام، هنا لا يطلب المرتبة الدُنيا، بل المرتبة العليا، لأن قال في بداية الدعاء: “وبلّغ بإيماني أفضل الايمان”، وفي سياق وحكم الموضوع يتطلب ان يكون عنده معالي الاخلاق.

ومن هنا يتفرغ سؤال مهم:

إنسانٌ بهذه المرتبة العليا من الاخلاق، هل يمكن ان يُصاب بالتفاخر؟

ثمة طريقان لتهذيب النفس، واكتساب معالي الاخلاق:

الطريق الاول: هو طريق الله ـ تعالى- و طريق الانبياء، والأئمة والأولياء والعلماء.

والطريق الثاني: الذي هو في مقابل هذا الطريق الذي سار فيه الكثير عبر التاريخ بدءاً من بلعم بن باعورا في زمن نبي الله موسى، عليه السلام، ثم الحسن البصري في عهد أمير المؤمنين، ومن بعده، المتصوفة والمدّعين العرفان، هؤلاء يقومون ببعض الرياضات النفسية، مثلاً؛ كأن يمتنع عن أكل اللحم، ويقومون ببعض الاعمال الاخلاقية مثل الكرم والتواضع.

 

إن الله ـ تعالى- لا يجري الخير على يد كل من شاء، فالقضية بحاجة الى توفيق واستعداد لهذا العمل، فثمة الكثير يعطيهم الله من فضله، ولكن لا يوفقون لعمل الخير، بينما هناك اصحاب اليد القليلة لكنه موفق في عمل الخير

 

بيد أن كل هذه المظاهر لا تتصل بالله ـ تعالى- ولا يريد صاحبها وجه الله والتقرب اليه ـ تعالى-، وانما يتبغي عرض الحياة الدنيا. فذاك الذي لبس الخشن، وأكل الجشب، وتواضع للناس، ليس من اجل التقرّب الى الله، وإنما ليكتسب صفة “شيخ الطريقة”، فيدعون الارتقاء والصعود بهذه الطريقة، بينما المؤمن لا يبحث عن امور كهذه، فهو لا يهمه الوجاهة والعنوان في المجتمع من  خلال اكتسابه معالي الاخلاق، بل العكس؛ تجده دائم الذمّ لنفسه، وكلما تبلورت اخلاقه كلما تراجعت لديه مشاعر الفخر.

ذات مرة التقى المرجع الخونساري بالمرجع البروجردي، وكلاهما من أبرز علماء الدين، بيد أن الاخير كان زعيم الحوزة العلمية، وكان كلاهما تلميذين لاستاذ واحد، فبدأ السيد الخونساري بالحديث مشيداً بالسيد البروجردي بأنك استاذي، وأكد له زمالته في مرحلة واحدة في بدايات طلب العلم، ولكن غيّب عنه أنه كان استاذه، بشكل لا يوقعه في الكذب، فقال: لا أتذكر، فأجابه السيد الخونساري، بأن من حقك أن تتذكرني، فانت لديك الكثير من التلاميذ من امثالي! بيد أني اتذكر جيداً أنك كنت من أفضل اساتذتي.

إن مرتبة العلم الرفيعة التي كانت لدى السيد الخونساري لم تدفعه للفخر والخيلاء مطلقاً.

وحتى سائر الصفات الاخلاقية الواردة في دعاء مكارم الاخلاق كأن أسدي النصيحة وأغضّ عمّن غشني وغيرها من الخصال الحميدة، فان العمل بها ربما يخلق في النفس نوعاً من الفخر والعجب والزهو بما يميز صاحبه عن الآخرين.

وهناك من يتفاخر على غيره بما قام به رياضات روحية حتى وصل الى مرتبة الزهد والورع والتقوى، فهو أوصل نفسه الى هذه المراتب ليس تقرباً الى الله، وإنما إرضاءً لنفسه ولدنياه وليس لآخرته، ولذا نجد الاما زين العابدين، عليه السلام، يُقرن بين الطلب بمعالي الاخلاق، والعصمة من الفخر، حتى تكون هذه الاخلاق العالية متصلة بالله ـ تعالى-.

عن المؤلف

السيد مرتضى المدرّسي

اترك تعليقا