معروف عن شهر رمضان تميزه في آلية التغيير والتجديد لمنظومة السلوك والاخلاق عن سائر الطرق العبادية، مثل الصلاة والحج كونها تتم بطقوس معلنة وبشكل جماعي، فالأجر والآثار العظيمة المترتبة عليها نرجوها من خلال حشد أكبر عدد من المصلين، وحضور الملايين من الحجيج في الديار المقدسة، بينما نرجو الآثار العظيمة ايضاً للصيام من خلال إمساك غير معلن وخفي عن الطعام والشراب والجنس، و أولها؛ الورع عن محارم الله، كما أوصانا نبينا الكريم، صلى الله عليه وآله وسلم، وفهمنا الورع في غضّ البصر، وعفّة اللسان، وطهارة القلب من الحقد والحسد والكراهية، كل ذلك يتم بشكل غير محسوس في الوسط الاجتماعي، فاذا سار اثنان في الشارع، أحدهما في قمة الورع، وآخر في قمة الفسق والتهتك، هل يمكن التمييز بينهما؟
هكذا يعلمنا شهر الصيام الإخلاص بكل بساطة، ويعلمنا كيف نسمو بانفسنا من خلال التدريب على تنمية الجواهر واللباب الى جانب وجود الظواهر التي هي موجودة بالاساس في تعاملاتنا اليومية، وما أجمل استثمار هذه الفرصة لتجديد العلاقة مع وجودات مقدسة وعظيمة، مثل القرآن الكريم، وأهل بيت رسول الله، صلوات الله عليهم، وايضاً قيم عليا مثل؛ العطاء، والتكافل، والتعاون. نعم؛ من الجيد جداً توسيع موائد الإفطار الجماعي، و تكثير محافل القرآن الكريم، لاسيما للشباب والناشئة، الى جانب البرامج الثقافية والخيرية الاخرى، بيد أن هذا لا يبعدنا مطلقاً عن الطريق الموازي للجانب الظاهري في العمل، والنظر بجدّية بالغة الى الجانب المعنوي والجوهري، حتى تقترن تلاوة القرآن الكريم بالتأمل والتدبر، لنصل الى ما يريده القرآن الكريم منّا من نيل البصائر والحِكم والعِبر.
ومن الرائع والبديع إجراء مسابقات متلفزة للناشئة يتابرون فيها على معلوماتهم عن الأئمة الاطهار، وعن معرفتهم بالدين والاخلاق، بل وحتى بالعلوم والمعارف حسب مستوياتهم، أما أن نقيم المسابقات التي تبحث بين اليافعين والشباب أعذب الأصوات في تلاوة القرآن الكريم، أو أشجى المقامات في شعر الرثاء والمديح لأهل بيت رسول الله، صلى الله عليه وآله، فهذا يُعد اجحافاً مزدوجاً للطرفين؛ لما نعده مقدساً ونهفو اليه بقلوبنا ونفوسنا، واجحافاً لانفسنا ايضاً عندما نغيّب عنها اللباب والنور الذي يفترض ان نبصر به طريقنا في الحياة كما فعل آباؤنا من قبل من الشعراء والرواديد الذين كانت كلماتهم و إلقاءهم العفوي والنافذ في القلوب، خشبة الموت التي يحملونها على ظهورهم أينما حلّوا، ولعل تلكم الكلمات الولائية الصادقة، والإلقاء العفوي الرقيق هو الذي أخاف الطغاة من كسب قلوب الناس، واحتمال تحويل ولائهم الى غير رأس السلطة، والقصص لا تُعد في عهد صدام وحزب البعث في العراق.
ولا ننسى قضية مركزية في علاقتنا الولائية، أنه، لا القرآن الكريم، ولا أهل بيت رسول الله، صلى الله عليه وآله، بحاجة الينا، بل نحن المحتاجون اليهما في التقرّب الى الله ـ تعالى- وكسب رضوانه، وشهر رمضان المبارك أعظم فرصة بين سائر الشهور لبلورة هذه العلاقة وتعميق الولاء والايمان والحب، لاسيما اذا كان الأمر مرتبط بالامام الحسين، عليه السلام، والاستعداد لموسم الاحزان وإحياء ذكرى مصاب الامام الحسين، ونهضته الخالدة، فلابد أن تكون اقلامنا، و اصواتنا، وكل قدراتنا الفنية والعلمية والعضلية مسخرة لإحياء القضية التي من أجلها ضحى الامام الحسين، عليه السلام، بنفسه وبأهل بيته في أرض كربلاء المقدسة.