رأي

علمٌ عراقيٌّ مرفوع و وطن مسروق

لا غرابة من مسؤولي الإعداد لاجتماع وزيري زراعة العراق والاردن في عمان، عندما يضعون علم العراق الصدامي (ذو الأنجم الثلاثة) على الطاولة الى جانب علم الاردن، ولا عتب على وزير الزراعة “العراقي” الجالس أمام هذا العلم، كيف اقترب من الطاولة وجلس دون أن ينتبه الى شكل العلم أمامه، وكذا الحال لأعضاء الوفد معه! مع ذلك؛ لا نستعجل الاحكام على الرجل، ونأخذ الأمر “على سبعين محمل”.

كما لم يعتب أحد، ولم يدن الاعلام والساسة في العراق، ملك اسبانيا في آخر زيارة له الى العراق، وقد أخرج الطيار الخاصّ به من الشباك الصغير لمقصورة القيادة العلم “الصدامي” يلوّح به أمام العراقيين بكل ما لديهم من دهشة وذهول وشعور عارم بالاستخفاف من نجل ملك عتيق ومخضرم، من سلالة ملكية عريقة في اوربا لا يعرف ما شكل علم البلد الذي يزوره! علماً أن الايام أظهرت أن هذا الاستخفاف جاء من ابن رجل (خوان كارلوس) غارق حتى ذقنه بالفساد المالي وسرقة أموال شعبه طيلة سنوات بعيداً عن أعين الاعلام الذي كان يعده شخصية لامعة وبارزة في اوربا والعالم، واليوم هو في عداد الهاربين من العدالة.

الاردن؛ هذا البلد القابع في الخاصرة الغربية للعراق، أنشأته بريطانيا من لا شيء على الارض بين شمال الجزيرة العربية والحدود المتاخمة مع سوريا وفلسطين، واختارت له نظام حكم ملكي برلماني على شاكلة النمط البريطاني مع الفارق الكبير في كثير من التفاصيل ليسهل التعامل معه كما ينبغي، واختارت له ملكاً كان جاهزاً من احد ابناء الشريف حسين، والي الدولة العثمانية على مكة، وسادن الحرم الشريف (الكعبة المشرفة)، والمنقلب عليهم فيما بعد تحت شعار: “الثورة العربية”.

 

عندما لا يُحترم وجود شيء اسمه العراق، كبلد ووطن ذو سيادة، وتاريخ عريق، وعمق حضاري وثقافي فريد من نوعه في المنطقة والعالم، فضلاً عن قدراته وامكاناته البشرية والطبيعية، علينا أن ننتظر تجاهل المحيطين بنا، ليس بالعلم وحسب، ولا حتى باسم العراق، بل حتى لقدرة الانسان العراقي على العيش بأمان وسلام دون الحاجة الى الآخرين

 

ومع فائق الاحترام لجميع ابناء الشعب الاردني الشقيق ـ في الدين قبل أي شيء – فان هذا البلد البريطاني المولِد، والاميركي المنشأ، عرف الاعتماد على المساعدات الخارجية طيلة العقود الماضية، سواءً المباشرة من الغرب، او فيما بعد من الدول الصديقة للغرب التي تقبلت هذه “المسؤولية الغربية” عن طيب خاطر، مع تحريكه لقطاع الزراعة والتجارة فيما بعد ليعين الدولة والشعب على توفير العملة الصعبة، ولا ننسى ـ ولا ينسى الاردنيون معنا- الفضل العظيم للبنك الدولي، وصندوق النقد، والخزانة الاميركية وغيرها من عمالقة المال في العالم على مسك ظهر الاقتصاد الاردني والحؤول دون تعرض الدينار الاردني للسقوط طيلة عقود من الزمن وبشكل مذهل، بينما كانت العملات من حوله تتمزق بين فترة واخرى بفعل الازمات، إلا ما حصل مؤخراً عندما شاخت اميركا وتراجعت قوتها، حتى أضحت اليوم الأسد العجوز والعاجز الحائر كيف يحمي نفسه ومصالحه فضلاً عن أن يحمي الآخرين.

هنا جاء الضغط الاميركي المباشر على صدام (رئيس النظام السابق) لتوقيع اتفاقية غريبة من نوعها مع الاردن لضخ النفط باسعار مخفضة واستثنائية خارج اتفاق اوبك مقابل أن يقف ملك الاردن السابق (الملك حسين) الى جانب صدام في أزماته، لاسيما العقوبات الاقتصادية التي فرضها الغرب في تسعينات القرن الماضي، وليكون الاردن نافذته الى العالم للحصول على مايريد من السلع والوصول الى العالم الخارجي.

وهذه الاتفاقية ما زالت سارية المفعول باشراف ورعاية اميركية مباشرة، وهي بين مدّ وجزر، واتفاقيات تجديد، او زيادة او تخفيض للضخ، حتى أن الاردن حصل على هدية سخية وجديدة من نظام ما بعد صدام بأن يمد له خط انبوب نفط من أقصى جنوب العراق ليخترق الصحراء الغربية حتى الاراضي الاردنية بغية شفط نفط البصرة هذه المرة بعد أن كانت المهمة لفترة من الزمن على عاتق الكُرد ليضخوا النفط بالصهاريج من حقول الشمال.

الاعلام والسياسة في العراق يتحدثان باستمرار عن تفاصيل اتفاية النفط الرخيص من ثروات الشعب العراقي، ولا أحد يتكلم قط عما ينبغي على الاردن القيام إزاء الكرم العراقي، وكيف أن المواطن العراقي يواجه أبشع انواع التعامل في الاردن بخلاف سائر الدول المحيطة به، ففي المطار يُسأل الزائر العراقي عن انتمائه الطائفي بشكل وقاحة، واذا ما كان شيعياً يُنظر اليه بشكل آخر، ويكون التعامل معه بغير الحُسنى، وتفتش أغراضه بدقّة بحثاً عن الممنوعات التي هي كتب الأدعية او التربة للصلاة او هدايا للحسينيات يحملها العراقيون المتوقفون في عمان في طريقهم الى اوربا او اميركا.

قبل ان يضيع النفط، وهو نعمة إلهية يمكن تعويضها بأخرى، بيد أن ضياع الكرامة لا يعوض، وأن يكون “المسؤول العراقي” بأي منصب كان، صغيراً او كبيراً، فاقداً لصفة “مسؤول في الدولة العراقية” في أعين الاردنيين، بل وسائر البلاد المحيط بنا، فضلاً عن جميع دول العالم.

في صحافة بعض هذه الدولة لم ترد ولا مرة واحدة منذ الاطاحة بصدام، واجراء اكثر من انتخابات برلمانية، كلمة “مجلس النواب العراقي”، او كلمة “البرلمان العراقي”، وعلى حدود برية كتبت عبارة لمن يدخل الى ذلك البلد بأن “باتجاه الوطن”! وليس اسم ذلك البلد حتى لا يُقرن اسمه باسم البلد المجاور له؛ العراق.

عندما كنّا نكتب في صحافة المعارضة العراقية في الخارج، كان البعض يتحسس من كلمة “النظام العراقي”، او حتى “نظام صدام”، حتى لا نعطي صفة النظام على ذلك الطاغية، كما كان من المعيب على شخص خارج العراق الاحتفاظ بعلم العراق، والتباهي به على أنه علم صدام! وكم كانت جميلة ملاحظة أحد الاعلاميين المخلصين في مؤتمر للمعارضة عقد في مصيف صلاح الدين عام 1994، عندما سأل عن “سبب عدم وجود علم عراقي يرفرف فوق رؤسنا ونحن نعد انفسنا الممثلون الشرعيون للعراق والشعب العراقي وليس صدام حسين”! علماً أن الاخير بدأ بسلسلة “البيع المباشر” للعراق منذ تورطه في مستنقع حرب الثمان سنوات مع ايران، عندما وقع اتفاقية التوغل العسكري التركي في شمال العراق عام 1984، وتنازله عن حقول نفطية جنوب العراق للكويت بعد حربه والكارثية عام 1991.

 

المشكلة ليست في شكل العَلَم، ولا العلم بذاته، فالقضية رمزية بالدرجة الاولى ذات بعد معنوي خاص، فان كانت الانجم الثلاثة موجودة أو غير موجودة لا يغير من الاوضاع والحقائق شيء

 

المشكلة ليست في شكل العلم، ولا العلم بذاته، فالقضية رمزية بالدرجة الاولى ذات بعد معنوي خاص، فان كانت الانجم الثلاثة موجودة أو غير موجودة لا يغير من الاوضاع والحقائق شيء، وللعلم فان نظام حزب البعث تسلّم العلم العراقي ذو الانجم الثلاثة منذ انقلابه العسكري عام 1968، ثم أضاف اليه صدام عبارة “الله أكبر” بعد تعرضه للضربة الاميركية الموجعة علّها تشفع له للبقاء في السلطة اكثر! والمفارقة هنا؛ أن النظام الديمقراطي الجديد القادم على انقاض ديكتاتورية صدام حذف الانجم الاربعة وأبقى على إضافة صدام!

عندما لا يُحترم وجود شيء اسمه العراق، كبلد ووطن ذو سيادة، وتاريخ عريق، وعمق حضاري وثقافي فريد من نوعه في المنطقة والعالم، فضلاً عن قدراته وامكاناته البشرية والطبيعية، علينا أن ننتظر تجاهل المحيطين بنا، ليس بالعلم وحسب، ولا حتى باسم العراق، بل حتى لقدرة الانسان العراقي على العيش بأمان وسلام دون الحاجة الى الآخرين، وانه دائماً في المراتب الدنيا بالتعليم والصحة والخدمات وكل شيء، فاذا يفشل الساسة في تحقيق هذا المطلب لسبب أو لآخر، فان المسؤولية تقع على جميع افراد الشعب العراقي لأن يحملوا وطنهم وما يضم من مكانة وعمق وقدرات وامكانات الى كل مكان، وأنه ليس كما يفكر الآخرون.

عن المؤلف

محمد علي جواد تقي

اترك تعليقا