-
مقدمة
البحث عن أي ولادة لا يمكن أن تكون إلا بالبحث عن الوالدين، ودراسة أي مولود يجب أن يسبقه دراسة الأصل – الوالدين – لذاك المولود، فكل مولود له والدَين، إلا أبانا آدم، عليه السلام فلم يكن له ذلك ولكن لا يمكن أن نغفل عن التراب والصلصال الذي خُلق منه، وأما السيد المسيح، عليه السلام، لذي استغنى عن الوالد، فهو لم يستغن عن الوالدة والحاملة له.
وربما كان ذلك الحديث عن الأصل، فالأم في لغة العرب تعني الأصل، وكل مولود يشترك في أصله الوالدان، وهنا يجب التأكيد على أن الأم أصل لولدها وليست مجرد وعاء كما يعتقد بعض الجهال من العرب قديماً وحديثاً وهذا صار من البديهيات في هذا العصر العلمي، فالإنسان الذي تنعقد بيضته فهو مشترك من نطفة الأب، وبويضة الأم، فيأخذ من كل منهما جيناته الخاصة.
وعليه فإن الوراثة المتراكمة تُنجبُ – أي تنتجُ النجباء العظماء – في بني البشر، فكما أن الحُمق يُعدي كذلك العبقرية والنجابة تفعل ذلك، ولذا سنتطرق إلى هذه المسألة في حديثنا عن أعظم مخلوق في هذا الزمن، ألا وهو سيدنا وإمامنا المهدي المنتظر صاحب العصر والزمان، عجل الله تعالى فرجه، حيث نعيش أيام ولادته المباركة الميمونة علينا وعلى البشرية جمعاء بإذن الله تعالى.
-
الخيرة والنَّجابة في الأم
لدينا العديد من الروايات التي تتحدَّث عن أم الإمام المهدي، عليه السلام، من رسول الله، صلى الله عليه وآله، والأئمة، عليه السلام، فقد روى الشيخ المفيد أنّ الإمام الرضا، عليه السلام قال لعمّه عليّ بن جعفر الصادق، عليه السلام: “يا عمّ، ألم تسمع أبي الإمام الكاظم، عليه السلام، وهو يقول: قال رسول الله، صلّى الله عليه وآله: بأَبي ابْنُ خِيرَةِ الإِماءِ ابْنُ النُّوبيَّةِ الطَّيِّبَةِ الفَمِ، المُنْتَجَبَةِ الرَّحِمِ.. وَهُوَ الطَّريدُ الشّريدُ المَوْتورُ بأبيهِ وَجَدِّهِ، صاحِبُ الغَيْبَةِ يُقالُ: ماتَ أَوْ هَلَكَ، أَيَّ وادٍ سَلَكَ؟” (الإرشاد للمفيد: 317، والكافي 323:1 / ح 14).
وقال أمير المؤمنين الإمام علي، عليه السلام: “بأبي ابن خيرة الإماء، – يعني القائم من ولده، عليهم السلام – يسومهم خسفاً، ويسقيهم بكأس مصبَّرة، ولا يُعطيهم إلا السيف هرجاً، فعند ذلك تتمنى فَجَرَةُ قريش لو أن لها مفاداةً من الدنيا وما فيها ليَغفر لها، لا يكفُّ عنهم حتى يرضى الله”.
بشَّر الإمام الهادي ، عليه السلام، السيدة نرجس، بقوله: فأبشري بولد يملك الدنيا شرقاً وغرباً ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً”
وروي أن جماعة كانوا عند الإمام علي، عليه السلام فكان إذا أقبل ابنه الحسن، عليه السلام، يقول: “مرحباً يا ابن رسول الله، وإذا أقبل الحسين يقول: بأبي أنت وأمي يا أبا ابن خيرة الإماء، فقيل له: يا أمير المؤمنين ما بالك تقول هذا للحسن وتقول هذا للحسين؟ ومَنْ ابن خيرة الإماء؟ فقال: ذاك الفقيد الطريد الشريد محمد بن الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين هذا، ووضع يده على رأس الحسين عليه السلام”. (كنز الفوائد/ 175، وإثبات الهداة:3/463 و571 والبحار:51/110 و120).
فهي (خيرة الإماء)، فما قصتها، وكيف صارت أمَة، وهل هي أمَة فعلاً، وما هو أصلها وفصلها تلك التي أنجبت ذاك الحسيب النجيب، النور الهادي والإمام المهدي المنتظر، عجل الله تعالى فرجه؟
-
أم الإمام المهدي
قال المسعودي والذي يُعتبر أقدم مصدر تعرّض للحديث عن أمّ الإمام، عجل الله فرجه: “إنّها أمّ ولد يقال لها نرجس”، وأما الشيخ الطوسي فقال: “أمّه ريحانة، ويقال لها: نرجس، ويقال لها: صقيل، ويقال لها سوسن”، وقد ورد اسم نرجس في رواية السيّدة حكيمة التي تعتبر من أشهر الروايات سنداً حول ولادة الإمام الحجة عجل الله تعالى فرجه، ونرجس من أسماء الإماء حيث كان الناس يسمّون الإماء بأسماء مستحسنة للترغيب ولا ريب أنّ اسم نرجس وريحانة وسوسن كلّها أسماء لمجموعة من الأزهار الطيبة.
يُحدثنا بشر النخاس الذي من ولد أبي أيوب الأنصاري وأحد موالي أبي الحسن الهادي وأبي محمد العسكري، عليهما السلام قال: “كان مولانا أبو الحسن على بن محمد العسكري، عليهما السلام فقَّهني في أمر الرقيق فكنت لا أبتاع ولا أبيع إلا بإذنه.. أرسل إليه فلما جلس قال: يا بشر إنك من ولد الأنصار وهذه الولاية لم تزل فيكم يرثها خلف عن سلف، فأنتم ثقاتنا أهل البيت وإني مزكيك ومشرفك بفضيلة تسبق بها شأو الشيعة في الموالاة بها: بسرٍّ أُطلعك عليه وأُنفذك في ابتياع أمَة فكتب كتاباً ملصقاً بخط رومي ولغة رومية، وطبع عليه بخاتمه، وأخرج شنتقة (كيس) صفراء فيها مائتان وعشرون ديناراً.
فقال: خذها وتوجه بها إلى بغداد، واحضر معبر الفرات ضحوة كذا، فإذا وصلت إلى جانبك زواريق السبايا وبرزن الجواري منها فستحدق بهم طوائف المبتاعين من وكلاء قواد بني العباس وشراذم من فتيان العراق، فإذا رأيت ذلك فأشرف من البعد على المسمي عمر بن يزيد النخاس عامة نهارك إلى أن يبرز للمبتاعين جارية صفتها كذا وكذا، لابسة حريرتين صفيقتين، تمتنع من السفور ولمس المعترض، والانقياد لمَنْ يُحاول لمسها ويشغل نظره، بتأمل مكاشفها من وراء الستر الرقيق فيضربها النخاس فتصرخ صرخة رومية.
فاعلم أنها تقول: واهتك ستراه، فيقول بعض المبتاعين عليَّ بثلاثمائة دينار فقد زادني العفاف فيها رغبة، فتقول بالعربية: لو برزت في زي سليمان وعلى مثل سرير ملكه ما بدت لي فيك رغبة فأشفق على مالك، فيقول النخاس: فما الحيلة ولا بد من بيعك، فتقول الجارية: وما العجلة ولا بُد من اختيار مبتاع يسكن قلبي إلى أمانته وديانته.
فعند ذلك قم إلى عمر بن يزيد النخاس وقل له: إن معي كتاباً ملصقاً لبعض الأشراف كتبه بلغة رومية وخط رومي، ووصف فيه كرمه ووفاه ونبله وسخاء فناولها لتتأمل منه أخلاق صاحبه فإن مالت إليه ورضيته، فأنا وكيله في ابتياعها منك قال بشر بن سليمان النخاس: فامتثلت جميع ما حده لي مولاي أبو الحسن، عليه السلام، في أمر الجارية، فلما نظرتْ في الكتاب بكت بكاء شديدا، وقالت لعمر بن يزيد النخاس: بعني من صاحب هذا الكتاب، وحلفت بالمحرجة المغلظة إنه متى امتنع من بيعها منه قتلت نفسها”.
وكانت تخرجت كتاب مولاها، عليه السلام، من جيبها وهي تلثمه وتضعه على خدها وتطبقه على جفنها وتمسحه على بدنها، فقلت: تعجباً منها أتلثمين كتاباً ولا تعرفين صاحبه؟
قالت: “أيها العاجز الضعيف المعرفة بمحل أولاد الأنبياء أعرني سمعك وفرغ لي قلبك أنا مليكة بنت يشوعا بن قيصر ملك الروم، وأمي من ولدا الحواريين تنسب إلى وصي المسيح شمعون، أُنبئك العجب العجيب”؛ (ثم تقصُّ حكايتها وكيف أراد جدها القيصر تزويجها من أبناء عمها فتنهدم الشرفات وتخر الصلبان على وجهها لثلاث مرات متتالية، فتطيَّرت العلماء والقساوسة، وحزن جدها حزناً شديداً مما رأى، ومن تعثر حظه وحظ أولئك الشبان).
ثم تقول: “فأريت في تلك الليلة كان المسيح والشمعون وعدة من الحواريين قد اجتمعوا في قصر جدي ونصبوا فيه منبراً يباري السماء علواً وارتفاعاً في الموضع الذي كان جدي نصب فيه عرشه، فدخل عليهم محمداً، صلى الله عليه وآله مع فتية وعدة من بنيه فيقوم إليه المسيح فيعتنقه فيقول: يا روح الله إني جئتك خاطباً من وصيِّك شمعون فتاته مليكة لابني هذا، وأومأ بيده إلى أبي محمد صاحب هذا الكتاب، فنظر المسيح إلى شمعون فقال له: قد أتاك الشَّرف فصل رحمك برحم رسول الله، صلى الله عليه وآله قال: قد فعلت، فصعد ذلك المنبر وخطب محمد ، صلى الله عليه وآله، وزوَّجني وشهد المسيح، عليه السلام، وشهد بنوا محمد، صلى الله عليه وآله والحواريون”.
الأم في لغة العرب تعني الأصل، وكل مولود يشترك في أصله الوالدان، وهنا يجب التأكيد على أن الأم أصل لولدها وليست مجرد وعاء كما يعتقد بعض الجهال من العرب قديماً وحديثاً وهذا صار من البديهيات في هذا العصر العلمي
فتمارضت واستعصى مرضها على الأطباء وتوسطت لفك أسرى المسلمين، ثم قال: “فرأيت أيضاً بعد أربع ليال كأن سيدة النساء قد زارتني ومعها مريم بنت عمران وألف وصيفة من وصائف الجنان فتقول لي مريم: هذه سيدة النساء أم زوجك أبي محمد، عليه السلام، فأتعلق بها وأبكي وأشكو إليها امتناع أبي محمد من زيارتي، فقالت لي سيدة النساء، عليها السلام: إن ابني أبا محمد لا يزورك وأنت مشركة بالله وعلى مذهب النصارى وهذه أختي مريم تبرأ إلى الله تعالى من دينك فإن ملت إلى رضا الله عز وجل ورضا المسيح ومريم عنك وزيارة أبي محمد إياك فتقولي: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن – أبي – محمداً رسول الله، فلما تكلمت بهذه الكلمة ضمتني سيدة النساء إلى صدرها فطيبت لي نفسي، وقالت: الآن توقعي زيارة أبي محمد إياك فإني منفذته إليك، فانتبهت وأنا أقول: واشوقاه إلى لقاء أبي محمد”.
قال بشر: فقلت لها: وكيف وقعت في الأسر؟ فقالت: “أخبرني أبو محمد ليلة من الليالي أن جدك سيرسل جيوشاً إلى قتال المسلمين يوم كذا، ثم يتبعهم فعليك باللحاق بهم متنكرة في زي الخدم مع عدة من الوصائف من طريق كذا، ففعلت فوقعت علينا طلائع المسلمين حتى كان من أمري ما رأيت وما شاهدت وما شعر أحد بأني ابنة ملك الروم إلى هذه الغاية سواك، وذلك باطلاعي إياك عليه، ولقد سألني الشيخ الذي وقعت إليه في سهم الغنيمة عن اسمي فأنكرته، وقلت: نرجس”، فقال: اسم الجواري، فقلت: العجب إنك رومية ولسانك عربي؟
ثم بشَّرها الإمام الهادي ، عليه السلام، بقوله: فأبشري بولد يملك الدنيا شرقاً وغرباً ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً”. (بحار الأنوار: ج 51 ص7).