ثقافة رسالية

لكي نواجه الغفلة

مهما طال السفر، فسيأتي اليوم الذي يعود كل شيء إلى مثواه، فماذا عنّا؟

بعد رحلة بدأت قبل عشرات الآلاف من السنوات، سيأتي اليوم الذي لا محالة قادم، يوم اللقاء الأعظم، يوم العرض الأكبر، يوم لقاء الله عزَّ وجل.

بالرغم من أنَّها حقيقة يفطنها الإنسان بفطرته، إلا أنّه يتجنبها، لا يريد التفكير فيها، ولا يقوم بما يجب عليه تجاهها، وبتعبير آخر لا يستعد لذلك اللقاء العظيم، لكن لماذا؟

المشكلة هي التي وصفها أمير المؤمنين عليه السلام في مناجاته مع ربه في شهر شعبان المعظم، حين قال: “اِلـهي إِنْ اَنَامَتْنِي الْغَفْلَةُ عَنِ الاسْتْعِدادِ لِلِقائِكَ..”،  نعم؛ إنها الغفلة وما أدراك ما الغفلة، فكما الذي يواجه النعاس ما أن تضعف إرادته سيغط في نوم عميق، كذلك من يواجه الغفلة، فإنّها تصارعه دائماً وأبداً.

 

النعاس مقدمة دخول البدن في النوم، والغفلة مقدمة دخول الروح في السبات؛ يمرُّ على القبور فيعتبر، ويقرر الإصلاح، لكنّه سرعان ما ينسى ذلك؛ يصلي صلاة الليل ويتوب إلى ربه، ولكنّه يعود إلى نوم الغفلة مرّةً أخرى! يدخل في شهر رمضان وليالي القدر، فتراه في منتهى الإنجذاب إلى الخالق، ولكنّه يعود الى سابق عهده بعد إنتهاء الشهر الفضيل.

 

إذا عرفنا أنَّ أساس الغفلة هو الإعراض عن ذكر الله، فإنَّ مواجهتها يكون بالاكثار من ذكره عزَّ وجلّ، ذكراً خفياً أو جلياً، قال تعالى: {وَاذْكُر رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ والاصَالِ وَلا تَكُن مِنَ الْغَافِلِينَ}

 

هذا حال ابن آدم كما وصفه رسول الله صلى اللّه عليه وآله: “إنَّ ابنَ آدَمَ لَفي غَفلَةٍ عَمّا خُلِقَ‌ لَهُ“، فهو غافل ولكنّه “غَيرُ مَغفولٍ عَنهُ“، ومع ذلك فإنَّ بني آدم ليسوا بدرجة واحدة، فهناك غافل وهنا أغفل، و”أغفَلُ النّاسِ مَن لَم يَتَّعِظْ بِتَغَيُّرِ الدنيا مِن حالٍ إلى حالٍ“.

لكن ما هي الغفلة، وما هي مراتبها وكيف نواجهها؟ لنعود إلى كتاب الله المجيد لنستوحي منه البصائر في الإجابة على هذه التساؤلات الثلاث.

 

  • ما هي الغفلة؟

من خلال تتبع سياقات الآيات القرآنية التي وردت فيها كلمة “الغفلة” نفقه معانيها، وما نستوحيه من الآيات ـ وخصوصاً عندما يكون الحديث في قضايا حياتيّة نتعامل معها ونتعايش ظروفها (1)ـ أنَّ الغفلة تقابل الذكر والإنتباه، وتعني عدم التوجّه إلى‏ ما من شأنه الإهتمام به والتوجه إليه، كالسلاح في المعركة، والطفل في أرض مسبعة، ودعوة المضطر عند الحاجة.

وغريب أمر هذا الإنسان فمع أنّه يواجه عدواً شرساً كالشيطان لكنّه يغفل، يقول الإمام الصادق عليه السلام: “إِنْ كَانَ الشَّيْطَانُ عَدُوّاً فَالْغَفْلَةُ لِمَاذَا“؟

 

  • مراتب الغفلة؟

الذي يظهر من الآيات والروايات أنَّ مراتب الغفلة ثلاث:

الأولى: الغفلة البسيطة؛ وهي التي لا يزال الفرد غير منتبه إلى الحق، وإنّما لا يبالي به، لأنّه لم يذكّره به أحد؛ ومثاله الذي يملك رصيداً، وهو غافل عنه.

وهذه الغفلة ليس مأخوذٌ بها العبد كما قال ربنا سبحانه: {ذَلِكَ أَن لَمْ يَكُن رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ}، والذي يظهر من سياق الآيات أنَّ الأمم تبقى في غفلة قبل أن يبعث الله إليهم الرسل ينذرونهم، فقال تعالى: {لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ انذِرَ ءَابآؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ} وبعث الأنبياء لا يكون إلّا للتذكير ولإستئداء ميثاق الفطرة، أمّا الحجة البالغة فقد أتمها الرب على الخلق في عالم الذر فقال تعالى: {وإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلى شَهِدْنَآ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ}.

 

النعاس مقدمة دخول البدن في النوم، والغفلة مقدمة دخول الروح في السبات؛ يمرُّ على القبور فيعتبر، ويقرر الإصلاح، لكنّه سرعان ما ينسى ذلك؛ يصلي صلاة الليل ويتوب إلى ربه، ولكنّه يعود إلى نوم الغفلة مرّةً أخرى

 

الثانية: الغفلة الطارئة؛ وهي التي تحدث بعد الذكر، كما إذا نسي الإنسان أنّه يملك مالاً أو ذهل عن سلاحه في المعركة، بعد أن كان قد علم به سابقاً.

الجهل والغفلة والنسيان صفات ذاتية للبشر، ولو لا التعلّم والتذكّر لعاد الإنسان الى طبيعته التي أركز فيها وهي الغفلة، ومن هنا فإنَّ كثيراً من الناس يغفلون عن آيات الله سبحانه قال الله تعالى: {وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ ءَايَاتِنَا لَغَافِلُونَ}.

 

الثالثة: الغفلة الخاطئة؛ وهي التي تعمَّد الإنسان فيها، فصرف نظره عن آيات الحق، كغفلة الكفّار عن الله والآخرة بعد تذكرتهم بها عبر الرسل عليهم السلام.

وهي الغفلة التي لا يعذر الله عباده فيها، فهي التي تسبقها التذكرة، ويسبقها التكذيب. فهي غفلة مقصودة، إذا تعمّدها الإنسان زاد الله في غيّه، وسلب منه نور هدايته.

وتبدأ هذه الغفلة بتجاهل آيات الله، وصرف النظر عنها، وبالتالي عدم الاستماع الى داعي الله، ولا النظر في آيات الله، بسبب الرضا بالدنيا. يقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَآءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَانُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ ءَايَاتِنَا غَافِلُونَ}، وأساساً من استحَّب الدنيا على الآخرة يكون غافلاً، كما قال تعالى: {ذَلِكَ بِانَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الاخِرَةِ وَأَنَّ الله لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ * اوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ الله عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَاوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}.

وعقبى هؤلاء النار كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَايَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَايُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءَاذَانٌ لَايَسْمَعُونَ بِهَآ اوْلَئِكَ كَالانْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ اوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}، وقال عزَّ من قائل: {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَاغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِانَّهُمْ كَذَّبُوا بِايَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ}.

وقد يتسافل المرؤ بالغفلة حتى يكون حاله كما وصفه القرآن الكريم: {لَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَ لَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ}.

 

  • أسباب الغفلة

إنَّ السبب الأساسي للغفلة هو الإبتعاد عن ذكر الله عزَّ وجلّ، ففي كلام للإمام الصادق، عليه السلام، يقول فيه: “مَا مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا وَلَهُ حَدٌّ يَنْتَهِي إِلَيْهِ إِلَّا الذِّكْرَ فَلَيْسَ لَهُ حَدٌّ يَنْتَهِي إِلَيْهِ فَرَضَ اللَّهُ‏ الْفَرَائِضَ فَمَنْ أَدَّاهُنَّ فَهُوَ حَدُّهُنَّ وَ شَهْرَ رَمَضَانَ فَمَنْ صَامَهُ فَهُوَ حَدُّهُ وَ الْحَجَّ فَمَنْ حَجَّ فَهُوَ حَدُّهُ إِلَّا الذِّكْرَ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَرْضَ فِيهِ بِالْقَلِيلِ وَ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ حَدّاً يَنْتَهِي إِلَيْهِ ثُمَّ تَلَا {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً. وَ سَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَ أَصِيلًا} فَلَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ حَدّاً يَنْتَهِي إِلَيْه“‏.

ومن أسباب الغفلة لدى الإنسان، الطغيان، فإذا ما أحسَّ بعدم الحاجة والامتلاء، فسيصاب بالطغيان ومن ثمَّ يصاب بمرض الغفلة، يقول تعالى: {إن الإنسان ليطغى * أن رآه استغنى}، ولذلك فقد جعل الله حاجة البشر بعضهم الى بعض، فالانثى تحتاج الى الذكر والذكر يحتاج الى الانثى، وجعلهما يبحثان عن ذرية لغريزة داخلية، وجعل الطفل يحتاج اليهما، وهكذا يجعل الجميع محتاجاً للجميع لكيلا يغفلوا.

 

  • كيف نواجه الغفلة؟

ولكن السؤال الأخطر هو عن كيفية مواجهة الغفلة؟ إذا عرفنا أنَّ أساس الغفلة هو الإعراض عن ذكر الله، فإنَّ مواجهتها يكون بالاكثار من ذكره عزَّ وجلّ، ذكراً خفياً أو جلياً، قال تعالى: {وَاذْكُر رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ والاصَالِ وَلا تَكُن مِنَ الْغَافِلِينَ}.

وهناك نوع آخر من الذكر وهو الذكر القلبي المسماة بـ”الذكر”، ففي كل حالة من حالاته يذكر الله عزوجل، وروحه تذكر بارئها.

واذا ما وصل الإنسان الى مرحلة من الكمال الروحي فإنّه يجد أنَّ كل ما حوله يسبِّحون بحمد الله ويذكرون الله: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ}.

وإذا ضعف يقين المؤمن، عليه أن يبحث عمّن يذكّره بربه، وأن يطلع في آيات الله في الآفاق وفي‏ نفسه، ويزور المقابر وآثار الغابرين، ويروِّع قلبه بمصيرهم الذي قد ينتظره قريباً، لذلك يقول أمير المؤمنين عليه السلام: “اِلـهي إِنْ اَنَامَتْنِي الْغَفْلَةُ عَنِ الاسْتْعِدادِ لِلِقائِكَ فَقَدْ نَبَّهَتْني الْمَعْرِفَةُ بِكَرَمِ آلائِكَ”.

 

على المؤمن أن لا يطمئن الى الحياة الدنيا، ولا يأمن عذرها واستدراجها، ولا يتكبر عن آية حتى ولو تجلّت له في بعوضة وما فوقها، بل يجعلها جميعاً سببا لذكر الله ليكون بذلك مطبقاً لقوله تعالى: {فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.

المصادر:
  • انظر: النساء، الآية: 102، ويوسف، الآية: 13، والاحقاف، الآية: 5.
  • عدة الداعي ونجاح الساعي: 248.

عن المؤلف

السيد مرتضى المدرّسي

اترك تعليقا