-
مقدمة في الشجاعة
الحديث عن أبي الفضل العباس اقترن بالحديث عن الشجاعة بأجلى وأعلى صورها، وذلك لأنه تمثَّل الشجاعة الحيدرية التي أنست العرب أحاديث الشجعان.
وإذا أردنا البحث عن هذه الشخصية الفذَّة فإننا بلا شك ولا ريب سيبهرنا في كل صفاته، صلوات الله عليه، ولكن اليوم وبمناسبة ولادته المباركة الميمونة سنأخذ جانباً واحداً من تلك الجوانب التي خصَّه بها المعصوم في زيارته المباركة.
والشجاعة يمكن أن نقسِّمَها إلى قسمين: “الشجاعة القتالية، والشجاعة الأدبية“، وفي كلاهما كان أبو الفضل العباس، عليه السلام، قمَّة من القمم الإنسانية، وقيمة من القيم الأخلاقية، بما إضافه من نفسه وسيرته العطرة وأخلاقه الراقية في الحياة الإسلامية.
-
الشجاعة القتالية
هنا الحديث يأخذنا إلى شيء قلَّ نظيره في التاريخ البشري، فكان أبو الفضل العباس صورة مصغرة عن أبيه أمير المؤمنين الإمام علي، عليه السلام، فيها حيث يقول فيها العلامة ابن أبي الحديد في شرحه للنهج العلوي الشريف: “وأما الشجاعة فإنه أنسى الناس فيها ذكر مَنْ كان قبله ومحا اسم من يأتي بعده، ومقاماته في الحرب مشهورة يُضرب بها الأمثال إلى يوم القيامة، وهو الشجاع الذي ما فرَّ قط، ولا ارتاع من كتيبة، ولا بارز أحداً إلا قتله، ولا ضرب ضربة قط فاحتاجت الأولى إلى ثانية وفي الحديث: “كانت ضرباته وتراً“.
وجملة الأمر أن كل شجاع في الدنيا إليه ينتهي، وباسمه ينادي في مشارق الأرض ومغاربها”، وهذا كله ورثه سيدنا ومولانا أبو الفضل وإن كان بنسبة أقل من أبيه، عليه السلام، الذي لا مثيل له ولا نظير في البشر إلا البشير النذير والسراج المنير رسول الله محمد، صلى الله عليه وآله.
وشجاعة أبو الفضل ظهرت أول ما ظهرت على ما يقصُّون في التاريخ كان مبكراً وفي صفين خاصَّة التي شهدها وهو فتى كان يُلثِّمه والده بخمار ولا يسمح له بالإشتراك في المعركة إلا قليلاً لخوفه عليه، فكان عندما ينزل على الميدان يظنونه والده علي، عليه السلام،وما هو إلا العباس، عليه السلام.
وعليه فما عسانا أن تحدَّث عن شجاعة العباس؟ إلا أننا سنأخذها من ابن أبي الحديد بحديثه عن أبيه أمير المؤمنين، عليه السلام، الذي بهره فقال: “وتصور ملوك الفرنج والروم صورته في بِيَعْها، وبيوت عباداتها حاملاً سيفه مشمراً لحربه، وتصوِّر ملوك الترك، والدَّيلم صورته على أسيافها كان على سيف عضد الدولة بن بويه، وسيف أبيه ركن الدولة صورته، وكان على سيف ألب أرسلان، وابنه ملكشاه صورته كأنهم يتفاءلون به النصر والظفر”، وهكذا صارت (كف العباس) راية مرفوعة في كل الأماكن، وعلى كل الروابي التي تنشد الحرية والكرامة الإنسانية.
-
الشجاعة الأدبية
هذه الشجاعة لا تقلُّ خطراً عن الشجاعة القتالية، رغم أن الأولى تحتاج إلى قوة الجسد، وهذه تحتاج إلى قوة القلب، وهي تتمثَّل بكلمة الحق وأعلاها وأرفعها بوجه سلطان جائر، وفي هذه مثَّل سيدنا أبو الفضل العباس أرقى مثالاً يُحتذى في أحلك الظروف حيث حاطت بهم جيوش الأعداء بأكثر من ثلاثين ألف وهم لا يصلون المئة مع ثقل النبوة ومخدرات الوحي لا سيما السيدة زينب الكبرى، عليه السلام،سيدة البيت الهاشمية، وعقيلة الطالبيين، التي كان كفيلها ومتولي خدمتها أخوها أبو الفضل شخصياً بوصية من أبيه أمير المؤمنين، عليه السلام.
مما تميز به أبو الفضل العباس، عليه السلام العلم حتى جاء في حديث شريف: “قد زُقَّ العلم زقاً” وعلمه كان نابعاً من البصيرة واليقين، وبصيرته جعلته يتمسك بعروة الولاية الإلهية
فالتاريخ يُحدِّث أنه في تلك اللحظات التي سبقت الهجوم الأول لجيش الباطل على جيش الحق – وحيث كانت السيدة فاطمة بنت حزام أم البنين أم العباس، وعثمان، وجعفر، وعبد الله، كانت كلابية فذهب جرير بن عبد الله بن مخلد الكلابي – وكانت عمَّته – فأخذ لأبنائها أماناً هو وشمر بن ذي الجوشن من ابن زياد – فجاء الشمر بالكتاب حتى وقف على أصحاب الحسين، عليه السلام، وقال: أين بنو اختنا؟ فخرج إليه العباس وجعفر وعبد الله وعثمان بنو علي، عليه السلام، فقالوا: ما تريد؟ فقال: أنتم يا بني أختي آمنون، فقال له العباس: “لعنك الله ولعن أمانك أتؤمننا وابن رسول الله لا أمان له“، هذه هي الشجاعة الأدبية، وهذه هي كلمة الحق بوجه الظالم التي يُظل الله صاحبها في ظله يوم لا ظل إلا ظله كما في الرواية الشريفة.
-
العباس قدوة المدافعين
هذه هي الصفة التي وردت على لسان المعصوم في زيارة أبي الفضل العباس، عليه السلام، حيث قال: “فَنِعْمَ الصّابِرُ الْمُجاهِدُ، الْمُحامِي النّاصِرُ، وَالأَخُ الدّافِعُ عَنْ أَخيهِ، الْمُجيبُ إِلى طَاعَةِ رَبِّهِ“، هذه الفقرة التي تتصدَّر بالتنعيم لهذا العَلَم الشامخ والطَّود الباذخ، وتشهد له بهذه الصفات الإيمانية والإنسانية الراقية التي قلَّ نظيرها في البشر.
وأنه مجاهد صابر، ومحامي ناصر، وأخ مدافع عن أخيه وكل ذلك استجابة لأوامر الله، وفي طاعة الله سبحانه وتعالى، لأن الأمر من الله في وجوب الدفاع عن الحق والدِّين، والإمام الحسين، عليه السلام، إمام مفترض الطاعة من الله، وأبو الفضل العباس هو خير مَنْ فهم الرسالة وقام بواجبه الجهادي بصبر وثبات، وشجاعة حيدرية قلَّ نظيرها في العرب.
وذلك لأن سيدنا أبو الفضل كان ذو بصيرة نافذة كما قال المعصوم عنه: “كان عمّنا العبّاس نافذ البصيرة، صلب الإيمان، جاهد مع أبي عبد اللَّه، عليه السلام، وأبلى بلاءً حسناً، ومضى شهيداً“، هذه الكلمات وصفه بها الإمام الصادق، عليه السلام، فهي صفات على القدِّ والمقاس وليست زائدة أبداً لأنها من كلام المعصوم بحقِّ عمِّه العباس، والإمام لا يُعطي وصفاً إلا بالحق والحقيقة الواقعية.
يقول سماحة المرجع الديني السيد المدرسي (حفظه الله): “مما تميز به أبو الفضل العباس، عليه السلام العلم حتى جاء في حديث شريف: “قد زُقَّ العلم زقاً” وعلمه كان نابعاً من البصيرة واليقين، وبصيرته جعلته يتمسك بعروة الولاية الإلهية، وأن صلابة إيمانه، وصدق يقينه، جعلاه لا يأبه بالحياة”، فيُقدم على الموت برجليه، لا ويُقدِّم أمامه إخوته الثلاثة قبل أن يُقدِّم نفسه بقوله لهم: “يا بني أمي، تقدّموا حتى أراكم قد نصحتم لله ولرسوله“، فتقدَّموا ثلاثتهم وقاتلوا حتى قُتلوا جميعاً وهو ينظر إليهم كالأضاحي على مذبح العزة والكرامة والشهادة في سبيل الله، دفاعاً عن سيدهم ومولاهم وأخيهم سيد الشهداء أبي عبد الله الحسين عليه السلام.
-
العباس، عليه السلام يتحلى بالحسين
هنا لفتة راقية من سماحة السيد المرجع المدرسي (حفظه الله) حيث يقول: “لقد كان الإمام علي تجلياً لشخصية رسول الله، صلى الله عليه وآله، وأخلاقه، وعلمه، وآية لصدق رسالته، ومبالغاً في الدفاع عن رسالته، وهكذا كان سيدنا العباس، عليه السلام، بالنسبة إلى أخيه وإمامه وحجة الله عليه والسبط المنتجب الحسين، عليه السلام،”، فكان العباس للحسين، عليه السلام، كما كان والدهما علي، عليه السلام، لرسول الله، صلى الله عليه وآله، مكانة بمكانة، ومحبة بمحبة، وشهادة بشهادة.
فكان سيدنا أبو الفضل العباس، عليه السلام،يحب ويحترم ويُجلُّ ويُقدِّس أخاه وإمامه الحسين، عليه السلام، منذ الصِّغر وكما ربَّته أمه الطيبة الطاهرة أم البنين، عليه السلام،على ذلك إلا أن نفسيته، وطينته، وشجاعته، وشهامته، وإيمانه، وبصيرته النافذة جعلته يختص بأخيه الحسين، عليه السلام، كقائد ورائد، وبأخته العقيلة زينب، عليه السلام، كحامي وخادم، وكان يجد نفسه في قمَّة الطاعة والانقياد لهما بأمر الله ورسوله.
يقول الامام الصادق عليه السلام: “كان عمّنا العبّاس نافذ البصيرة، صلب الإيمان، جاهد مع أبي عبد اللَّه، عليه السلام، وأبلى بلاءً حسناً، ومضى شهيداً”
فالإمام الحسين، عليه السلام، كان يتجلى بالعباس، والعباس كان يتحلى بأخيه الحسين، عليه السلام، فكان العباس في كل عمره الشريف لم يُنادي أخاه الحسين، عليه السلام، باسمه أو يا أخي، إلا في آخر لحظات له من هذه الحياة فنادى بلهفة الأخ، حين سقط عن جواده: “أخي يا حسين عليك مني السلام“.
وكذلك كان الإمام الحسين، عليه السلام، يعرف المقام الشامخ لأخيه وسنده وعضيده العباس ولذا كان يُخاطبه بأرقى وأعلى الكلمات، ألا تراه قال له: “اركب – بنفسي أنت يا أخي – حتى تلقاهم وتسألهم عمَّا جاءهم“، أي أن الإمام الحسين، عليه السلام، قال: “فداك نفسي يا أخي”، وأي عظمة هذه التي بلغها أبو الفضل العباس حتى يقول له الإمام المعصوم هذا القول الذي كرره أكثر من مرة على ما يبدوا من السيرة العاشورائية.
في الحقيقة إن لسيدنا ومولانا أبا الفضل العباس مقاماً لا يمكن لأمثالنا أن نُدركه، ولذا نُحاول أن نقتفي آثار وكلمات الأئمة، عليه السلام، بحقه، وبالتالي أجدني قاصراً عن التعبير وسنقتبسها، من سماحة السيد المرجع المدرسي (دام عزه) أيضاً حيث يقول: “كان العباس، عليه السلام فقيها من فقهاء أهل البيت، وكان القائد الشجاع، والكريم المضياف، والعــابد الزاهد، وكان بالتالي شخصية متكاملة من جميع الجهات، ولكنه كان منصهراً في شخصية أخيه الحسين، عليه السلام، ومبالغاً في طاعته والنصيحة له، وهكذا عرف الناس كيف ينبغي أن يتعاملوا مع الإمام عليه السلام”.
نعم؛ كان سيدنا أبو الفضل العباس قدوة راقية جداً علَّمنا طريق العزة، والكرامة، والدفاع عن حياض الدِّين، والقرآن الحكيم، وعن الإمام المعصوم، المفترض الطاعة، فنِعم القدوة والأسوة للمجاهدين والأبطال المدافعين عن حرم الرسالة وقيم الإسلام الحق كان سيدنا أبو الفضل.
فآلاف التحية والسلام على روحه الطاهرة، وأمه الطاهرة، واخته الطاهرة ورحمة الله وبركاته.