رأي

بابا الفاتيكان و المرجع السيستاني و النجف الأشرف

قام أعلى زعيم مسيحي في العالم، والمرشد الروحي لما يربو على المليار و ٣٠٠ مليون كاثوليكي في العالم بزيارة رسمية للعراق.

هذه الزيارة لا تكتسب أهميتها فقط لأن العراق أنهكته الحروب والمعارك، و إنما من لقائه بآية الله العظمى السيد علي السيستاني، المرجع الأعلى للشيعة في العالم.

هذا اللقاء يثير تساؤلات عدة، منها؛ أهمية هذا اللقاء؟ ومن هم الشيعة؟ و ما هي أهمية النجف الأشرف؟

لنبدأ من آخر سؤال: إذا أردنا أن نتعرف على أهمية النجف الأشرف ينبغي أن نتعرف على أهمية الفاتيكان!

ترابط غريب؛ فلنتأمل سويةً.

فالكثير لا يعلمون بأن الفاتيكان تحتضن -في عقيدة المسيحيين- مرقد لشخصية لا يتم الحديث عنها بما فيه الكفاية، فكنيسة القديس بطرس في الفاتيكان تضم قبر الحواري بطرس، المعروف عندنا بـ “شمعون الصفا”.

الكنيسة الكاثوليكية تعد شمعون أول زعيم للكنيسة، و وصي نبي الله عيسى، عليه السلام، كما يعده الشيعة وصياً لنبي الله عيسى أيضا، كما تنص عليها الروايات عن المعصومين، عليهم السلام.

ورد في الإنجيل قول عيسى لشمعون حيث يقتبس “متّى 16” من يسوع قوله: “أقول لك إنك بطرس، وعلى هذه الصخرة سأبني كنيستي، ولن تتغلب عليها أبواب الجحيم. سأعطيك مفاتيح ملكوت السموات. كل ما تربطه على الأرض سيكون مقيداً في السماء”.

وهذه عبارات تذكرنا بكلمات رسول الله لأمير المؤمنين، عليه السلام: “من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه”.

في “يوحنا 21:15″، أن المسيح أمر بطرس (شمعون) “بإطعام خرافي… رعاية حملي وقطيعي، وهو ما يعني أنه مُنح أعلى سلطة في المسيحية.

تأملوا معي: لا يمكن المبالغة في الرمزية هنا: يغادر بابا الفاتيكان، حيث مرقد وصي المسيح، لزيارة مدينة النجف، حيث مرقد وصي محمد، صلى الله عليه وآله، فما يجعل النجف مميزة للغاية ليس الحوزة العلمية -على ما لها من الأهمية البالغة- ولكن كون النجف الأشرف موقع الضريح المهيب لأمير المؤمنين، عليه السلام، فهو الخليفة والوريث لنبي الإسلام؛ فالزيارة البابوية لها تسلط الضوء على الصلة التاريخية بين شمعون الصفا، والإمام علي، بين خليفة نبوي مع آخر.

النجف، مهمة أيضا لعدد من الأسباب الأخرى التي ربما لا يعرفها الكثير من الناس، فهي تحتضن قبور الأنبياء آدم ونوح، وهي الوادي المقدس الذي رأى فيه موسى الشجرة المشتعلة وحيث تحدث الله مع موسى لأول مرة، ومع ذلك؛ فإن ما يجعل الأمر مهماً للغاية هو أنه وفقاً للمسلمين الشيعة، فإن المنقذ الموعود سيسكن الكوفة عندما يظهر مرة أخرى في آخر الزمان، وهو الشخص الذي يعود نسبه إلى النبي محمد، والى القديس شمعون.

مرة أخرى يمضي التاريخ دورة كاملة، ويتم إنشاء العدل الإلهي من خلال سلسلتي القداسة والشرف المباركتين.

الآن، وبغض النظر عن العقيدة، فإن ما يجعل هذه الزيارة تاريخية هو حقيقة أن البابا زار المنزل المتواضع للمرجع الأعلى، الآن أريدك أن تفكر في هذه الكلمة “أية الله”، وأنا متأكد من أنك سمعتها من قبل لعقود من الزمان.

تم استخدام لقب “آية الله” للتنقيص و الازدراء بالشيعة وعلماءهم، لاسيما من قبل بعض الحكومات والمؤسسات التي تتبنى النهج السعودي، فماذا يعني ذلك في الواقع؟ إنه لقب يُعطى لشخصيات دينية عندما يصلون إلى مستوى كبير، وهو ليس منصباً سياسياً، بقدر ما هو عنوان علمي وديني.

نقلت وسائل الإعلام العالمية الجو الروحي لمدينة النجف الأشرف، كما نقلت بساطة العيش للمرجع الديني وتواضعه، هذا النوع من الزهد الذي لا مثيل له في العالم كله، لأنه في نفس الوقت الذي يتزعم السيد السيستاني أكثر من 200 مليون شخص في جميع أنحاء العالم، ويمكنه جمع ثروة شخصية بمئات المليارات، لكن هذا العالم الكبير -حاله كحال جميع أسلافه- يعيش في بيت صغير و قديم، مبني من الطوب، يقع في  زقاق ضيّق وسط مدينة النجف القديمة، وهذا على النقيض تماماً من العروش الذهبية، والتيجان المرصعة بالجواهر، والتفاخر المُبهر لقادة الديانات الكبرى في العالم.

لقد قابل البابا رجلا من سلالة إبراهيم يذكّر بأبو الديانات؛ اليهودية والمسيحية والإسلام أفضل من أي شخص آخر قابله من قبل، ويحمل إرثهم أكثر من أي زعيم ديني آخر.

سيشهد العالم كيف يعيش مرجع الشيعة مثل أفقر الناس، على الرغم من نفوذه وتأثيره العالمي، حيث يمكن أن يؤدي مجرد استيائه أو تلميح الاستياء إلى إسقاط حكومات بأكملها كما حدث في عام 2019 حيث استقال رئيس الوزراء وحكومته عندما ألمح ممثله إلى ذلك.

في اجتماع حديث مع سماحته، أخبرنا المرجع الديني السيد علي السيستاني أن المنزل الذي يسكن فيه، ولا تتجاوز مساحته 40 متراً مربعاً، هو وقف لطلبة العلوم الدينية الذين لا يمتلكون منزلاً ويجب أن يستوفوا شروطاً معينة حتى يتمكنوا من العيش فيه.  ثم قال إنه أوصى أبناءه بعدم وراثة المنزل بعد رحيله، بينما نحن -في العالم الشيعي- معتادون على هذا المستوى من الزهد ، لا يستطيع الآخرون أن يفهموا كيف يمكن للشخص الذي يمتلك سلطة كالمرجع السيستاني، ويتحكم بمبالغ ضخمة من المال، أن ينفصل عن وسائل الراحة الشخصية، ولفهم ذلك على العالم أن ينتبه أن المرجع السيستاني يرى نفسه تلميذاً صغيراً عند أمير المؤمنين.

إن الشخصية الفريدة لأمير المؤمنين هي التي تلهم قادتنا بمثل هذا التواضع وضبط النفس، لقد علمتنا حياة الامام علي، عليه السلام، أن الحب الحقيقي لا يمكن اكتسابه إلا عندما يهتم المرء حقاً بالآخرين ، بحيث يعيش حياة أفقر الناس وأكثرهم تهميشًا.

أمير المؤمنين، عليه السلام، الذي شرّف ضريحه المبارك مدينة النجف، فصارت “الأشرف”، كان زاهدًا، مثل إخوته؛ عيسى وموسى، ولكن على عكس من هؤلاء الأنبياء، كان علي زعيماً لخمسين دولة من دول اليوم -من شمال افريقيا حتى شرق أفغانستان- ولكن على الرغم من إمبراطوريته الواسعة والقوية، عاش في تقشف مُبهر حيّر الناس حتى يومنا الحاضر، وحتى اكتسب هذا الكم من التفاني الذي يقدسه أكثر من مليار مسلم، لم يكن لديه حراس شخصيون، وكان يبغض فكرة الحاشية، ولم يكن لديه سوى قطعة واحدة من الثياب، وكان يرقّع نعله.

وعندما انتقل إلى مدينة الكوفة ليتخذها مقراً للخلاقة والحكم، رفض الدخول إلى قصور أسلافه (قصر الإمارة)، وبدلاً من ذلك، عاش في منزل من الطين بناه بيديه الكريمتين، كان طعامه بسيطًا إلى حد كان ضيوفه يناشدون أطفاله لإظهار الرحمة لوالدهم من خلال إضافة بعض الزيت إلى خبز الشعير الصلب الذي كان وجبته الوحيدة.

كان شعاره العيش كأفقر الناس وكان الوصول إليه متاحاً لدرجة أن يهودياً سأل عنه ذات مرة فقيل له إنه يحفر الآبار للمارّة، و عندما وصل اليه كان الإمام مستريحا تحت نخلة، وحيداً، يأخذ قسطًا من الراحة من العمل الشاق، فقال للإمام علي: “عدلت فاطمأننت”، لأنه لم يكن يخشى التعرض للاغتيال.

هذا هو علي، وهؤلاء هم تلامذته وشيعته!

في الختام؛ دعونا نجعل هذه الزيارة حافزاً لقادة العالم لأن يدركوا -كما فعل الفاتيكان- أن الشيعة هم أمة عالمية لا يجب الاعتراف بها فحسب، بل يجب احترامها، والشيعة بالذات هم من دافع عن الأقلية المسيحية في العراق عندما شهّرت داعش أنيابها المسمومة، وهم من أصرّ على المساواة في الحقوق لجميع العراقيين بغض النظر عن العقيدة أو العرق.

لقد حان الوقت لأن نعامل ليس كطائفة صغيرة، أو ككيان سياسي، إنما كمجتمع عالمي يعمل من أجل السلام والعدالة. وكون العراق دولة ديمقراطية تمنح الأقليات حقوقاً متساوية فان الفضل يعود الى الشيعة الذين يمثلون الأغلبية، لكن الأهم من ذلك؛ أن ذلك بفضل علماء الشيعة الذين ضمنوا للأقليات عدم شعورهم بالحرمان من حقوقهم من قبل حكومتهم، وذلك على الرغم من أن بعض المسيحيين كانوا جزءاً من نظام صدام، فعلى سبيل المثال طارق عزيز، وزير خارجية صدام لفترة طويلة، وأقرب المقربين  اليه، كان مسيحياً، بينما كان الشيعة بين نار الاضطهاد، وفي قعر السجون، وفي ساحات الاعدام الجماعي، وهذا لا يعني أننا نحمل جميع المسيحيين المسؤولية عن جرائم النظام البائد، بل على العكس ، كان علماء الشيعة هم الذين نصوا على حماية الأقليات الدينية، وأمرونا بالدفاع عنهم بأرواحنا من أجل سلامتهم إذا اضطررنا لذلك.

إننا نسعى جاهدين للالتزام بقول أمير المؤمنين، عليه السلام، الذي قال لمالك اللأشتر عند تنصيبه والياً لمصر “الناس صنفان؛ إما أخٌ لك في الدين أو نظيرٌ لك في الخلق”.

هذه الكلمات الأبدية لا يمكن أن تنبع إلا من خليفة الله في الأرض، كعلي بن أبي طالب، ولهذا ما تعرّف مسيحي على شخصية علي إلا وقع في حبه، كما يقول الكاتب والشاعر المسيحي اللبناني الشهير بولس سلامة:

 

لا تَقُل شيعةٌ هُواة عليّ * إن في كل منصف شيعيَّا

هو فخر تاريخ لا فخرَ شعب * يدّعيه ويصطفيه وليَّا

جلجل الحق في المسيحيّ حتى عُدّ من فرط حبّه علويَّا

أنا من يعشق البطولة والإلهام * والعدل والخلُق الرضيَّا

إن لم يكن عليّ نبيّاً * فلقد كان خلقه نبويَّا

سفر خير الأنام من بعد طه * ما رأى الكون مثله آدميَّا

يا سماءُ اشهدي ويا أرض قرّي * واخشعي إِنني ذكرت عليَّا

عن المؤلف

السيد مهدي المُدرّسي

اترك تعليقا