(سار الجيش إلى خيبر في جمادى الأُولى، وتمّ الفتح في 24 رجب ۷ﻫ على الأشهر)
-
مقدمة تاريخية
ما أظلم التاريخ بل ما أعدله للمنصف والواعي البصير بتقلباته وأحداثه، فالظالم ليس التاريخ بل المؤرخون الفسَقة الذين ساروا بركاب السلطان ونطقوا باسم الشيطان، فأضاعوا على الأمة تاريخها الصحيح، ومآثرها الرائعة بطلب من الحكام والسلاطين لا سيما الأمويين الذين كانوا أوَّل مَنْ حاولوا كتابة التاريخ والسيرة النبوية، فحين كان سليمان بن عبد الملك ولياً للعهد الأموي، أمر إبان بن عثمان أن يكتب له سيرة الرسول، فقال إبان: هي عندي قد أخذتها مصححة، فأمر بنسخها، ولما اطَّلع سليمان عليها، ورأى ما فيها، أمر بذلك الكتاب فحُرق، وعندما رجع إلى عاصمة ملكه ذكر ذلك لأبيه فقال عبد الملك: “وما حاجتك أن تقدم بكتاب ليس لنا فضل فيه، تُعرِّف أهل الشام أموراً لا نُريد أن يعرفوها فقال سليمان: لقد أمرتُ بتحريق الكتاب فصوَّبه عبد الملك”. (الموفقيات للزبير بن البكار: ص ٢٢٣).
وطلب خالد القسري والي بني أمية على العراق وهو زنديق نصراني خبيث جداً من أحد العلماء أن يكتب له سيرة الرسول، فقال ذلك العالم: “فإنه يمرُّ بي الشيء من سيرة علي بن أبي طالب أفأذكره؟ فقال خالد: لا، إلا أن تراه في قعر جهنم”. (الأغاني ج ٢٢ ص ٢٥، وتدوين السنة الشريفة ص ٤٢١).
وكان ذلك بعد منع الحديث عن رسول الله، صلى الله عليه وآله، والكتابة عنه لأكثر من (130 سنة)، من قبل السلطة القرشية الأولى، ولما كتبوا كان الكُتاب من أزلام السلطة الظالمة، فظلمنا المؤرخون أيما ظلم عندما أخفوا عنَّا تلك الكنوز والمعارف والتراث الإسلامي الحضاري، وحرمونا من معرفة سيرة ومسيرة رسول الله، صلى الله عليه وآله، في بناء هذه الأمة المرحومة به.
-
فتح خيبر بالقوة
ومن هذا التراث الذي يطفح بالخير والفضيلة كانت غزوة خيبر، وفتحها بالقوة الربانية، ولكن لعبت فيها أقلام الأزلام وشوَّهوها أيما تشويه، وذلك لما جرى فيها من أحداث كبيرة كشفت رجال قريش الأوائل الذين تسنَّموا كرسي الخلافة ظلماً وقهراً، وهم أعلم وأخبر الناس بما جرى منهم في يوم خيبر وفرارهم من الزحف، وعودتهم إلى رسول الله، صلى الله عليه وآله، يجرُّون أذيال الخيبة، ويطبعون على جباههم أوسمة العار بالفرار من الزحف الذي هو من الكبائر السبعة.
فالتاريخ المكتوب يقول: أن رسول الله توجَّه بالمسلمين الذين كانوا معه في يوم الحديبية (1400) والذين رفضوا صلح ومنهم مَنْ قال: “لو وجدتُ مائة لقاتلتهم”، وهو ليس من أهل القتال بل من أهل الفتنة ولذا ترك رسول الله ولم يُبايعه تحت الشجرة، وبقي مخاصمه النبي يومين إلى أنزلت سورة الفتح المباركة فأرسل إليه وقرأها عليه فقال: أهو فتح؟
وفي الحقيقة التاريخية كان الفتح الذي تتحدَّث عنه سورة الفتح هي فتح خيبر، وذلك بقرائن كثيرة أهمها نفهمه من قوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا *وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} (الفتح: 19).
ففي الحُديبية لم يكن حرب وقتال ومغانم كثيرة بل كانت في خيبر، فهي الفتح القريب الذي وعَدَ الله سبحانه به رسوله، صلى الله عليه وآله، والمسلمين الذين رافقوه ولكن خذلوه فهربوا من أمام الحصون اليهودية السبعة وهي: (منقسمة إلى قسمين، قسم فيه خمسة حصون: (حصن ناعم، وحصن الصعب بن معاذ، وحصن قلعة الزبير، (تُسمى النطاة، وحصن أُبي، وحصن النزار وتُسمى بالشَّق)، وأما القسم الثاني، يُسمى بالكتيبة، ففيه ثلاثة حصون؛ حصن القموص؛ وهو حصن بني أبي الحقيق من بني النُّضَير، وحصن الوطيح، وحصن السلالم)، وكُلها فُتحت عنوة وقوَّة.
ورغم أنه، صلى الله عليه وآله تتبَّع تكتيكاً عسكرياً رائعاً لم يتَّبعه من قبل، فوصل إلى قلاع خيبر بعد أن فصل بينهم وبين وادي القرى وقطع عنهم مدد العرب المشركين من غطفان وغيرها ممَّن تحالفوا معهم ووعدوهم بالنصر وكانوا أكثر من أربعة آلاف.
ولذا حصلت مفاجأة كبيرة في صفوف اليهود حيث خرجوا إلى بساتينهم وأراضيهم فوجدوا الجيش الإسلامي يُحيط بهم، فعادوا مسرعين يُنادون: “محمد والخميس (أي الجيش)”، وأغلقوا أبوابهم عليهم، فقال رسول الله: “الله أكبر، خربت خيبر، إنّا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين“، وحاصرهم رسول الله لسبعة أيام، لم يكن بينهم إلا التناوش فجُرح من أصحابه أكثر من خمسين بالحجارة والنبل والسهام.
-
فتح الحصون الخيبرية
وبدأ الفتح بحصن النَّاعم، على يدي فتى الإسلام أمير المؤمنين الإمام علي، عليه السلام، قال الحلبي: “وفتح الله ذلك الحصن الذي هو حصن ناعم، وهو أوّل حصن فُتح من حصون النَّطاة على يد علي كرم الله وجهه”، وفي ذلك الحصن الذي اقتحمه أمير المؤمنين، عليه السلام دخل في عينيه الكريمتين شيء من الدُّخان الذي أشعله اليهود والغبار فرمدتا وتورَّمتا فبقي في مؤخرة الجيش لأنه لا يستطيع أن يُبصر حتى موضع قدميه.
وانطلق رسول الله بالمسلمين إلى حصار (النَّطاة) الذي دام عشرة أيام فكان ودفع، صلى الله عليه وآله، الراية إلى ثلاثة من أصحابه من المهاجرين (أبو بكر وعمر)، ومن الأنصار (سعد بن عبادة)، فلم يصنعوا شيئاً، بل رجع كل منهم يُجبِّن أصحابه، ويجبِّنونه، فغضب النبي حتى ظهر الغضب على وجهه الشريف وقال: “ما بالُ أقوام يرجعون منهزمين، يُجبِّنون أصحابهم! أما والله لأعطين الراية رجلاً يحبُّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله، کرّاراً غیر فرّار، يفتح الله عليه، جبريل عن يمينه، وميکائيل عن يساره“.
وتطاولت لها الأعناق من الأصحاب، وباتوا متشوِّقين، يُحدّثون أنفسهم فيمَنْ وعد النبي بتحقيق الفتح على يده، ويتمنَّون نيل شرفه، فغدت قريش يقول بعضهم لبعض: “أما عليٌّ فقد كُفيتموه فإنه أرمد لا يُبصر موضع قدمه”، فأصبح رسول الله، صلى الله عليه واله، واجتمع إليه الناس قال سعد بن أبي وقاص: “جلستُ نصبَ عينيه، ثم جثوتُ على ركبتي، ثم قمتُ على رجلي قائماً، رجاء أن يدعوني”، فقال: “ادعوا لي علياً“، فصاح الناس من كل جانب: “إنه أرمد رمداً لا يُبصر موضع قدمه”، فقال: (أرسلوا إليه وادعوه)، فأُتي به يُقاد، فوضع رأسه على فخذه ثم تفلَ في عينيه، فقام وكأن عينيه جزعتان (حمراوان)، ثم أعطاه الراية ودعا له فخرج يُهرول هرولة، فوالله ما بلغت أخراهم حتى دخل الحصن، قال جابر: فأعجلنا أن نلبس أسلحتنا وصاح سعد: إربع (تمهَّل) يلحق بك الناس، فأقبل حتى ركزها قريباً من الحصن، فصاح رجل من أعلى الحصن: مَنْ أنت؟ فقال: “أنا علي بن أبي طالب“، فصاح: علوتم والذي نزل على موسى.
فخرج إليه مرحب بطلهم وفارسهم المشهور يرتجز بالشعر، فبارزه أمير المؤمنين، عليه السلام وضربه ضربة قدَّته نصفين، ووصل السيف إلى راس الفرس فقطعته ثم إلى الصخرة التي كانا عليها فقدَّتها وأنبط الماء من تحتها وآثارها باقية في منطقة خيبر إلى اليوم. (الإمام علي وحروب التنزيل؛ الشيخ حسين كريمو: ص396).
وقال الباقر، عليه السلام: انتهى إلى باب الحصن وقد اغلق في وجهه، فاجتذبه اجتذابا وتترس به، ثم حمله على ظهره، واقتحم الحصن اقتحاماً واقتحم المسلمون والباب على ظهره، قال: فو الله ما لقي عليٌّ من الناس تحت الباب أشد مما لقي من الباب، ثم رمى بالباب رمياً، وخرج البشير إلى رسول الله، صلى الله عليه واله: إن علياً عليه السلام دخل الحصن، فأقبل رسول الله فخرج علي يتلقاه فقال، صلى الله عليه واله: “بلغني نبأك المشكور، وصنيعك المذكور، قد رضي الله عنك فرضيتُ أنا عنك“.
وجاء إليه رجل قريش عمر فقال له: (يا أبا الحسن، لقد اقتلعت منيعاً ولك ثلاثة أيام خميصاً (صائماً)، فهل قلعتها بقوَّة بشرية؟ فقال: ما قلعتها بقوة بشرية، ولكن قلعتها بقوة إلهية، ونفس بلقاء ربها مطمئنة رضية)، هكذا قلع علي، عليه السلام الباب الذي يحتاج إلى 22 شخص ليُغلقوه فقط.
-
ورُدَّتْ له الشمسُ كرامةً
روى حديث رد الشمس في خيبر عدد كبير، وهو حديث أمنا أم سلمة، قالتْ: كان رسولُ اللهِ، صلَّى اللهُ عليه وآله، يوحَى إليه ورأسهُ في حجرِ عليٍّ فلم يصلِّ العصرَ حتَّى غربتِ الشمسُ فقال رسولُ اللهِ، صلَّى اللهُ عليه وآله: “اللهمَّ إنهُ كان في طاعتِكَ وطاعةِ رسولِكَ فأردُدْ عليه الشمسَ” قالت أسماءُ: “فرأيتُها غربتْ ثمَّ رأيتُها طلعَتْ بعد ما غربَتْ“، وفي لفظٍ للطبرانيِّ: “فطلعَتْ عليه الشمسُ حتَّى وقفَتْ على الجبالِ وعلى الأرضِ وقام عليٌّ فتوضأ وصلَّى ثمَّ غابتْ وذلك بالصَّهْبَاءِ” من أرض خيبر”. (الخصائص الكبرى السيوطي: 2/82 حكم الحديث: صحيح بأسانيد كثيرة بعضها على شرط الصحيح).
هذه الكرامة الكبيرة التي لم تعطَ إلا ليوشع بن نون وصي موسى الكليم، عليه السلام، ولكن هذه الأمة تُنكر وتجحد الحق على أمير المؤمنين كرجال قريش وحُكامها الذين ليس في تاريخهم إلا المخازي جاهلية وإسلاماً حاولوا وبكل جهدهم أن يدفنوا تلك الحقائق الثابتة في كتب القوم، وفي آثار الإسلام حتى اليوم فمقام رد الشمس له في طريقه إلى صفين مازال شاهد عيان في العراق الحبيب.
فالتاريخ ظلم الأمة الإسلامية عندما أخفى تاريخ رسولها الكريم، صلى الله عليه وآله، وأئمتها العظام وراحوا يُدرِّسون تاريخ الحُكام والسلاطين فما عرفت الأجيال الحق فتاهت في صحرائها، وضلَّت عن دينها بسببهم.