أعجب ما في الكرة الأرضية وسائر المجرات أنها جميعا تخضع لقانون (السنن الإلهية).
فالطبيعة لها والاشجار ايضا، وكذلك الماء والهواء والكهرباء، وشاء الله الله ان ترضخ جميع الموجودات لذلك القانون حتى قال الله في كتابه: {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً}.
ولو عكفنا على دراسة هذا القانون المهم في الحياة لاكتشفنا أن الاستقامة والثبات على المبدأ من اهم السنن الالهية كشرط اساسي للنجاح {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ}.
فالبذرة لا تصبح شجرة صالحة بحيث تؤتي اكلها كل حين إلا إذا استقامت أمام الحر، وشحة الماء، وحرارة الشمس اللافحة. والبناء الشامخ لا يقوم إلا إذا استقام البناؤون، وواصلوا الطريق بصبر وشكيمة.
والتاجر لا يصل الى مستوى رفيع إلا إذا صمد وصبر أمام التحولات الاقتصادية، وقاوم الفشل والخسارة، لفترة من الزمن.
وإذا كنا نواجه في حياتنا الفشل، فإن ذلك يعني أننا لم نحسن التعامل مع قانون الاستقامة، وتركنا نظام السنن الالهية وراء ظهورنا، وصرنا نتشبث بأمور ثانوية علها تقودنا الى النجاح.
علينا ان نشحذ هممنا لاعادة تلك الحضارة الاسلامية وبعثها من جديد ليعم السلام والرفاه والحرية في جميع انحاء المعمورة خاصة تلك البلاد التي تعاني من تراجعات حضارية
ولكن ما هو معنى الاستقامة؟ وإذا كنا نقوم بعمل معين لفترة من الزمن ثم أهملناه، فهل نُعدّ من المخالفين لهذه السنة؟
والجواب: إن الاستقامة تعني الصبر أمام التحولات، فالحياة قائمة على سنن خارجة عن ارادتنا ولا نستطيع التحكم فيها، وإن أي مشروع فردي أو جماعي يرتبط بتغيير أمة او شعب، او ببناء حضاري فلا بد من أن يمر بنفق مظلم من المشاكل والعقبات، والمواقف الصعبة.
فالنصر لا يقدمه الله تبارك وتعالى على طبق من ذهب، وإنما يأتي بالبلاء والتحميص، لينظر أنستقيم على الخط أم نتراجع أمام أول مشكلة؟
يقول الله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ}.
فكل مشروع في هذه الحياة بحاجة الى الاستقامة، سواء كان مشروع زواج، او مشروع ثورة لبناء حضارة، او على مستوى اعادة الدين الى الحياة من جديد، وادخاله الى مفاصل الامة وشرايينها. والاستقامة تعني ان لا تتراجع عن عملك ومواقفك اذا كانت حقة وكنت تؤمن بها.
لقد مرت امتنا بأجيال مختلفة وتجارب متعددة، لكن الجيل الأول كان جيل الاستقامة الحقيقي. ففي ذلك الوقت كلما تعرضت الامة لمشكلة ازدادت استقامة على الجهاد، وعزيمة على الاستمرار على النهج والموقف الثابت، والصبر على الصعوبات، وهذا هو جيل اتباع الانبياء والذين آمنوا برسول الله، صلى الله عليه وآله، مع بدء الدعوة المحمّدية، الذين يصفهم القرآن الكريم بقوله: {فما وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ}.
ذلك أنهم ما تراجعوا، وضعفوا، وما استكانوا امام الانتاكات والمشاكل والتحديات، وما تنازلوا عن مواقفهم ومبادئهم، أمام أي من الاغراءات قط.
لقد مروا بظروف عصيبة، وقد قاطعوهم واتهموهم، لكنهم استمروا في انجازاتهم وما تراجعوا، فكانوا الجيل الذي ينتزع الحق والنصر من أيدي غاصبيه.
والى هذا الجيل هناك جيل يمكن أن نسميه (جيل المائعين)، جيل ضيع الدين وتمسك بالقشور، جيل باع آخرته من أجل دنياه، يقول تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً}.
إن هذا النوع من الناس الم يمروا بظروف قاسية كي تنخلهم وتصفّيهم، ولذلك فإنهم يتنازلون وينهارون أمام أول هزة وابسط هبة ريح، ويبيعون قيمهم من أجل حطام الدنيا، وهم الذين وصفهم الإمام الحسين، عليه السلام: “النَّاسُ عَبِيدُ الدُّنْيَا ، وَ الدِّينُ لَعِقٌ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ ، يَحُوطُونَهُ مَا دَرَّتْ مَعَايِشُهُمْ ، فَإِذَا مُحِّصُوا بِالْبَلَاءِ قَلَّ الدَّيَّانُون”
وبعد هذا الجيل المائع يأتي دور جيل جديد يتوب الى تعالى، ويرفض المنهج (اللاأبالي)، ومن ثم يستقيم على الطريقة ويتحمل المسؤولية ويعيد مجد الآباء، والأجداد الصالحين.
إن قراءة التاريخ تكشف لنا بوضوح وجود هذه الاجيال الثلاثة في الامة الاسلامية وفي غيرها من الامم، فرسول الله، صلى الله عليه وآله، وصحابته الاولين ممن خلص اسلامه والائمة الطاهرين عليهم السلام، وصحابتهم، هم الجيل الاول الذين قاتلوا وقُتلوا وهجروا وعذّبوا، إلا أنهم استقاموا وصبروا، ودفعوا بالمسيرة الرسالية الى الامام، ولم يسمحوا لشعلة الحق أن تخبو.
أما الجيل ( الثاني) المائع فقد مثله بنو أمية وبنو العباس ومن جاء من بعدهم مثل بني عثمان، ومن لف لفهم من الذين اتبعوا كل شيطان مريد، حتى انهزمت وخارت قوة الامة في عهودهم السوداء، فتراجعوا كأفراد وكأمة عبر ابتعادهم عن منهج الله عز وجل.
إننا اليوم نتطلع الى الجيل الجديد، الذي ينهض من تحت الرماد، ويرفع رأسه من تحت ركام الهزائم والانتاكاسات.
إننا بحاجة الى جيل جديد يقتدي بالإمام علي، عليه السلام، في التحولات والمتغيرات، جيل يقتدي بالإمام الحسين، عليه السلام، في استقامته حتى اللحظات الأخيرة من حياته.
لقد قال رسول الله، صلى الله عليه وآله: “شيبتني سورة هود”
ترى لماذا سورة هود بالذات؟
يقول ابن عباس: ” ما نزلت على رسول الله، صلى الله عليه وآله، آية كانت عليه وأشق من قوله تعالى {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ}.
فاستقامة الرسول كانت متوقعة، ولكن استقامة من كانوا معه هي التي شيبته، وقد قدم الله لهذا الحكم مقدمة من الآيات، فلا يضرك الكثيرون من الذين خضعوا للطاغوت، فإنهم يعبدون كما عبد آباؤهم، وسيجدون الهزيمة لأنهم تعودوا على التراجع والخضوع، والذين تابوا معك من عمل جيل المائعين.
ومن بعد ذلك يطلب الله عز وجل منهم تجنب الطغيان: {وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}.
لنعد الى كلمات أمير المؤمنين عليه السلام، حول الاستقامة ولنتدبر فيها؛ يقول الإمام عليه السلام: “من طلب السلامة لزم الاستقامة”
فبعض الافراد يظنون بأنهم إذا تراجعوا عن خط العمل المضني والجهاد الحق، فإنهم ينجون ولا يعملون بأن الاستقامة هي النجاة، يقول عليه السلام: “لا مسلك أسلم من الاستقامة”.
ويقول الإمام علي السلام أيضا: “عليك بمنهج الاستقامة فإنه يكسبك الكرامة ويكفيك الملآمة”.
وفي خطبة له عليه السلام: “العمل العمل ثم النهاية النهاية”.
إن كل مشروع في هذه الحياة بحاجة الى الاستقامة، سواء كان مشروع زواج، او مشروع ثورة لبناء حضارة، او على مستوى اعادة الدين الى الحياة من جديد، وادخاله الى مفاصل الامة وشرايينها. والاستقامة تعني ان لا تتراجع عن عملك ومواقفك اذا كانت حقة وكنت تؤمن بها
علينا ان نوصل العمل حتى النهاية ونستقيم عليه، ولا نتركه في منتصف الطريق لان في هذا الترك الهزيمة بعينها، ثم يستطرد أمير المؤمنين، عليه السلام بالقول: “والاستقامة الاستقامة ثم الصبر الصبر”.
عليك أن تعمل فإذا واجهت الصعوبات فعليك بالصبر والاستقامة، فالعمل بلا استقامة لا يجدي نفعا.
ثم يقول عليه السلام: “أَلاَ وَإنَّ الْقَدَرَ السَّابِقَ قَدْ وَقَعَ، وَالْقَضَاءَ الْمَاضِيَ قَدْ تَوَرَّدَ، وَإنِّي مُتَكَلِّمٌ بِعِدَةِ اللهِ وَحُجَّتِهِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَنْ لاَ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ}، وَقَدْ قُلْتُمْ: (رَبُّنَا اللهُ)، فَاسْتَقِيمُوا عَلَى كِتَابِهِ، وَعَلَى مِنْهَاجِ أَمْرِهِ، وَعَلَى الطَّرِيقَةِ الصَّالِحَةِ مِنْ عِبَادتِهِ، ثُمَّ لاَ تَمْرُقُوا مِنْهَا، وَلاَ تَبْتَدِعُوا فِيهَا، وَلاَ تُخَالِفُوا عَنْهَ”.
ولقد وعد الله سبحانه وتعالى بثمرة الاستقامة بحجمها قائلا: {وَأَلَّوْ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً}.
علينا ان نشحذ هممنا لاعادة تلك الحضارة الاسلامية وبعثها من جديد ليعم السلام والرفاه والحرية في جميع انحاء المعمورة خاصة تلك البلاد التي تعاني من تراجعات حضارية، وتبحث عن قيم تنقذها من مآسيها التي تعصف بها ولا تدري الى أين تجرها في نهاية المطاف.
إن حركتنا نحو بناء الحضارة ستنعكس علينا أولا، وعلى الآخرين ثانيا، وهو واجبنا المقدس الذي لا مناص عنه، والذي به ننال رضوان الله تبارك وتعالى، ونستحق رحمته في الدنيا والآخرة، وبه نستعيد حضارتنا الاسلامية المجيدة.