عادة ما نجد في حياتنا الكثير من المنحرفين جادة الطريق، وهؤلاء هم الذين لم يتلقوا تربية صالحة في صغرهم، وهذا ما يجعلهم ينحرفون في مسيرة التكامل الذي لابد أن يقوم على ضبط السلوك، وهذا الضبط لا يتم إلا عن طريق التربية.
والله تعالى حين خلق الإنسان، خلق معه القابليات والغرائز المختلفة التي لا تنمو إلا بالتربية، فهي اشبه ـ تلك القابليات والغرائز ـ بكنور تحت الأرض بحاجة الى البحث عنها بآلات معينة للإستفادة منها.
كذلك تنبع أهمية التربية في أنها ترسم المسار الحضاري الذي يجب على الإنسان أن يسلكه، ولأن الله تعالى خلق الإنسان لهدف معين، وهو التكامل في مختلف الجوانب المادية والمعنوية، كانت التربية هي الأساس لزرع حس التكامل وإخراج طاقات الفرد لما فيه مصلحته الدنيوية والأخروية.
الانطلاقة الصحيحة هي التي تمهد للتوجه الصحيح لسلوك المتربّي، وهذا السلوك هو نتاج العملية التربوية، كذلك فإن التربية الخاطئة هي التي تمهد لسلوك خاطئ، ومن هنا كانت التربية الصحيحة هي المنطلق الأول والأساس لتنمية قابليات الطفل (المتربّي) واستخراج كوامنه الخيّرة، لتهيئته بالشكل المطلوب.
وأولت التعاليم الدينية الإسلامية اهتماما بالغا الجانب التربوي وما له من أهمية كبيرة في تكامل الإنسان، وكثيرة هي الآيات القرآنية والنصوص الشريفة، عن النبي وأهل بيته، صلوات الله عليهم، التي أشارت بشكل مباشر وغير مباشر الى هذا الجانب.
يقول تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ}، والتزكية هنا جاءت بمعنى التربية، وهناك عدد من الآيات المشابهة لهذا المعنى.
ولما كانت التربية بهذه الأهمية البالغة فإن النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، وأهل بيته من بعده، وضعوا خصائص وشروط للإنسان المتصدي لهذه العمل المهم، بل وطالبوا أن يتصدى المؤمن لهذا العمل الكبير انطلاقا من المسؤولية الدينية.
ونحن إذ نعيش الذكرى الميمونة لولادة الإمام علي، عليه السلام، سنتعرض لصفات المربّي وما يجب أن يتمتع به، في ضوء كلام الإمام، عليه السلام، وما هي الأمور الاساسية التي يجب أن يوفرها في نفسه.
أحد أهم أهداف التربية هي المحافظة على نقاء الفطرة وحمايتها من التلوث والانحراف في النفس البشرية، لأنها ـ الفطرة ـ نقية طاهرة من التعقيد والانحرافات، فمسؤولية المربي إذن هي تنشئة الفطرة على استقامتها ونقائها، والأخذ بيد المتربي ليسير أمينا نحو بارئه
-
المربّي الإلهي في نظر الإمام علي
یقول الإمام علي، عليه السلام: “مَنْ نَصَبَ نَفْسَهُ لِلنَّاسِ إِمَاماً فَعَلَيْهِ أَنْ يَبْدَأَ فَلْيَبْدَأْ بِتَعْلِيمِ نَفْسِهِ قَبْلَ تَعْلِيمِ غَيْرِهِ وَ لْيَكُنْ تَأْدِيبُهُ بِسِيرَتِهِ قَبْلَ تَأْدِيبِهِ بِلِسَانِهِ وَ مُعَلِّمُ نَفْسِهِ وَ مُؤَدِّبُهَا أَحَقُّ بِالْإِجْلاَلِ مِنْ مُعَلِّمِ اَلنَّاسِ وَ مُؤَدِّبِهِمْ”.
يريد الإمام، عليه السلام في هذا الكلام أن يعرّف بمطلبين أساسين في موضوع (التربية) وهما:
المطلب الأول: المربي والمعلم يجب أن يسبق توليه تربية الآخرين تعليمه وتربيته لنفسه، وعندها يكون أهلاً للتصدي لمسألة تربية الآخرين. والإقدام على الحديث والخطابة والوعظ بدون علم ومعرفة وتفقّه، يجر الى الانحرف والإضلال والضياع.
المطلب الثاني: يجب على الواعظ والمربي أن يربيا الآخرين بسلوكهما وعملهما، وذلك أن التربية بالقول دون العمل ليس لا تحقق الهداية حسب، بل قد تكون سببا لإضلال الآخرين.
والقرآن الكريم يقول: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ}.
وروي عن النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، قوله: ” رأيت ليلة أسري بي إلى السماء قوما تقرض شفاههم بمقاريض من نار ثم ترمى، فقلت: يا جبرئيل! من هؤلاء؟
فقال: خطباء أمتك، يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون”.
ويقول الإمام الصادق عليه السلام: “إنّ العالِم إذا لم يعمل بعلمه زلّت موعظته عن القلوب كما يزل المطر عن الصفا”
ويقول الإمام الباقر، عليه السلام، في تفسير الآية الشريفة: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ} “هم قومٌ وصفوا عدلا بألسنتهم ثم خالفوه الى غيره”.
-
صفات المربّي
التعامل مع المتربي موضوع مهم جدا وهو فن من الفنون يجب أن يتقنه المربّي، لأن تعالمه مع المتربي، هو معاملة واحد من الناس الذين تختلف طباعهم، و”لذا ليس من السهل جداً أبداً أن نحوز على احترام وتقدير الأخرين، وفي المقابل من السهل جدا أن نخسر كل ذلك، وكما يقال الهدم دائما أسهل من النباء، فإن استطعنا توفير بناء جيد من حسن التعامل، فإن هذا سيسعدنا في المقام الأول، لأننا سنشعر بحبِّ الناس، وحرصهم على الاجتماع بنا، وبمتعة التعامل معنا”.
ولابد لشخصية المربي من التحلي لصفات تكون ملازمة له في كل الظروف والأوضاع:
- الإخلاص والنية الصادقة:
وهوسبب للقبول في الأرض وعامل أساس لقبول العمل وفق التصور الرباني وسبب للبركة والزيادة، (رب شيء كبير يصغره النية، ورب شيء صغير يعظمه النية)، عن الإمام علي، عليه السلام: “الإخلاص أعلى الإيمان”. وعن النية، يقول عليه السلام: “صلاح العمل بصلاح النية”.
فكما أن كل شيء لم يبدأ ببسم الله فهو أبتر، أيضا كل عمل ما لم يبنَ على الإخلاث فهو مردود لذا لابد أن يجعل المربي الإخلاص منطلقه الأول.
- العلم والمعرفة:
يتحرك المربي في رسالته العظمية والكبيرة (التربية) وفق مقاييس صائبة ومعايير علمية عالية، واول العلم معرفة الله، يقول أمير المؤمنين، عليه السلام: “معرفة العلم دين يدان به، به يكسب الإنسان الطاعة في حياته، وجميل الأحدوثة بعد وفاته”. ويقول عليه السلام: “العلم نعم دليل”.
- تنمية المواهب والإبداعات:
خلق الله ـ تعالى ـ الإنسانَ وأودع فيه انواعا من المواهب والابدعات المختلفة يتميز بها عن غيره، والمربّي أحوج من غيره لاستخراج الكوامن الإبداعية من أعماق ذاته ليستعين بها في اداء رسالته التربوية.
- القيادة:
المربّي ليس شخصا عاديا مهمته تربية الآخرين وحسب، بل إنه قائد للأجيال فمدى نجاح الأجيال وكفاءتهم العالية تنعكس من المرآة القيادية للمتصدي للتربية. ودار جدل واسع هل أن القيادة وراثة أم اكتساب، ولسنا بصدد هذا البحث، لكن الواقع يقول: أن القيادة أحيانا تكون بالوراثة وحيناَ آخر تكون بالإكتساب، وعلى كل حال فإن القائد المربّي يجب أن يتمتع بخصال قيادية كثيرة، منها:
أـ صقل المقاييس العليا للأخلاقيات الشخصية:
بحيث لا يستطيع القائد الفعّال أن يعيش أخلاقيات مزدوجة إحداها في حياته العامة (الشخصية) والأخرى في العمل، فالأخلاقيات الشخصية لابد أن تتطابق مع الأخلاقيات المهنية.
ب ـ النشاط العالي: فهو يترفع عن التوافه وينغمس في القضايا الجليلة عند اكتشافه بأنها مهمة.
ج ـ الانجاز: فالقائد تكون لديه القدرة على انجاز الأولويات، مع فهم الفارق بين الانجاز والاعداد.
د ـ امتلاك الشجاعة
وكثيرة هي الصفات التي يجب على المربي القائد ان يتمتع بها نظرا لموقعه الحساس والمهم.
یقول الإمام علي، عليه السلام: “مَنْ نَصَبَ نَفْسَهُ لِلنَّاسِ إِمَاماً فَعَلَيْهِ أَنْ يَبْدَأَ فَلْيَبْدَأْ بِتَعْلِيمِ نَفْسِهِ قَبْلَ تَعْلِيمِ غَيْرِهِ وَ لْيَكُنْ تَأْدِيبُهُ بِسِيرَتِهِ قَبْلَ تَأْدِيبِهِ بِلِسَانِهِ وَ مُعَلِّمُ نَفْسِهِ وَ مُؤَدِّبُهَا أَحَقُّ بِالْإِجْلاَلِ مِنْ مُعَلِّمِ اَلنَّاسِ وَ مُؤَدِّبِهِمْ”
-
مهام المربّي
تشكّل منظومة التعاليم الدينية الاسلامية حجر الاساس للمربي في انطلاقته الأولى تجاه المتربي، فغرس العقائد الحقة، والقيم الفضلى، والسلوك القويم هو ركن أساس في هذا الجانب المهم من حياة الإنسان.
والدين بمفهومه الشامل يلعب دورا كبيرا وهامّا في التربية، فالعقائد والفقه والأخلاق.. وبقية التعاليم الدينية، الهدف منها سعادة الإنسان في الدار، وهذه التعاليم تترابط ترابط عضويا، فالعقائد مرتبطة بالأخلاق وهكذا في بقية الجوانب المختلفة.
ولأن المربي طبيب دوار بطبه فهو يتخذ من النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، قدوةً وأسوة في هذا المسلك العظيم، يقول الإمام علي، عليه السلام في وصف رسول الله: “طبيب دوار بطبه، قد أحكم مراهمه، وأحمى مواسمه، يضع ذلك موضع الحاجة إليه، من قلوب عمي، وآذان ضمّ، وألسنة بُكم متتبع بدوائه مواضع الغفلة ومواطن الحيرة”.
فالمربي إذن هو طبيب إلهي دوار بطبه، ويسعى لعلاج أمراض الروح من عمى القلوب وصمم الآذان، وبُكم الألسن، والغفلة والحيرة، والضياع كل هذه هي من الأمراض التي يسعى المربّي لعلاج مربيه وابعادها عنه، بالإضافة الى تنمية الملكات والمواهب الأخرى.
وعلى المربي أن يسعى في طريقة تربية الآخرين الى التركيز المهم على أنواعا مهمة من التربية أهمها:
ـ التربية الاخلاقية والنفسية:
لأن الأخلاق الفاضل تشكل الأساس في بناء الشخصية الاسلامية، وتنظيم المجتمع، وهي مصدر سعادة الإنسان واستقامة شخصيته، لذا كانت التربية الأخلاقية من أهم عناصر التربية الانسانية التي اعتنى بها الإسلام، وأكد الإهتمام بها.
ونعرف قيمة الأخلاق في الاسلام من ثناء الله على نبيه الأكرم، {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} لذا فإن على المربي التركيز على هذا الجانب المهم والأساس من خلال، تخصيص اوقات لبحث درس أخلاقي مع المتربي، بالإضافة الى ربط المتربي بالنماذج الأخلاقية والقدوات الصالحة، كالنبي الأكرم وأهل بيته الطاهرين، والصالحين في المجتمع.
ـ التربية العبادية والايمانية:
أحد أهم أهداف التربية هي المحافظة على نقاء الفطرة وحمايتها من التلوث والانحراف في النفس البشرية، لأنها ـ الفطرة ـ نقية طاهرة من التعقيد والانحرافات، فمسؤولية المربي إذن هي تنشئة الفطرة على استقامتها ونقائها، والأخذ بيد المتربي ليسير أمينا نحو بارئه.
ولذا نجد أن الإمام علي، عليه السلام في تربيته للأمة ولخواص اصحابه، كان يركز على هذا الجانب المهم، ولذا نجد حيناً يعلم كميل ذلك الدعاء الذي نُسب الى الأخير، وتارة أخرى نجد يصطحبه الى جبانة الكوفة ويلقي عليه المواعظ العبادية والإيمانية.
وهذه العملية كلما كانت من الصغر كانت اسهل وانجح، لأن قلب الطفل كالأرض الخالية، وكل شيء يتقبله، فهو في مراحله الأولى يملك قدرة عالية على التلقي والتقبل، وعلى المربي أن يقدم له المعلومات العبادي: كتعليم الصلاة، وتحفيظ الاناشيد والقصص التي تزرع في نفسه معاني الإيمان والارتباط بالله سبحانه وتعالى وتشعره بصفات الله: العدل والرحمة وعقاب المجرمين وقدرته على الخلق والإيحاء.
وعلى المربي ملاحظة سن المتربي، ومن خلال ذلك يتم تقديم المادة التربوية الخاصة بتلك المرحلة العمرية.
-
المربّي والعلم
من الأمور التي كان يركز عليها أمير المؤمنين، عليه السلام في تربيته لخواص اصحابه، هي قضية العلم، وكيف يجب أن يكون المؤمن ذا علم نافع. فليس كل علم مطلوب، فهو ـ عليه السلام يضع المقاييس الصحيحة التي يجب على المربّي اتباعها في بنائه المنهجي للمتربي.
يقول عليه السلام لكميل بن زياد: “النَّاسُ ثَلاَثَةٌ: فَعَالِمٌ رَبَّانِيٌّ وَمُتَعَلِّمٌ عَلَى سَبِيلِ نَجَاةٍ، وَهَمَجٌ رَعَاعٌ أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِقٍ يَمِيلُونَ مَعَ كُلِّ رِيحٍ، لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِنُورِ الْعِلْمِ، وَلَمْ يَلْجَؤُوا إِلَى رُكْنٍ وَثِيقٍ.
وهذا تقسيم مهم يطرحه الإمام على كميل، وهو ان الناس على ثلاث اصناف، فمنهم العالي الربّاني، ومنهم المتعلم على سبيل النجاة، والصنف الأخير هم الهمج الرعاع، بعدها يفصل الإمام في أهمية العلم ومنهجيته.
ويقول عليه السلام: “يَا كُمَيْلُ، الْعِلْمُ خَيْرٌ مِنَ الْمَالِ، الْعِلْمُ يَحْرُسُكَ وَأَنْتَ تَحْرُسُ المَالَ”، وهذا ما يجب على المربّي زرعه وغرسه في نفس المتربّي، أن العلم خير من المال، ليس لأننا غير محتاجين الى الأموال، وإنما الأولوية للعلم، وإلا فما فائدة أن يمتلك الإنسان الأموال الطائلة، لكنه مفتقد الى الدراية الكافية كيف يستثمرها!
ويشير الإمام الى “العلم يحرسك وأنت تحرس المال”، فالإنسان بدون علم اشبه برجل عارٍ من الثياب، كذلك هو الحال مع العلم. ثم يفصل الإمام في هذا الجانب ويذكر بصفات العلماء.
إننا أحوج من أي وقت مضى الى أولى الاهتمام البالغ بجانب تربية الجيل الناشىء، لان التحديات التي تواجه المجتمع الاسلامية كبيرة وعاتية، وفي مقابل ذلك لن نصمد أمام رياح الانحراف والانحلال الا بالتربية الدينية، القائمة على أساس القيم والمبادئ المثلى.
المصادر
- نهج البلاغة.
- التربية والتعليم في الإسلام؛ عبد المجيد زهادت
- الأمن التربوي للطفل في الإسلام؛ فاطمة محمد طاهر الخاقاني.